شرح الكبائر الظلم

الظلم هو من أعظم المفاسد لما يترتب عليه من ضياع حقوق الآخرين ؛ ولما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذى قامت به السماوات والأرض وأرسل الله سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل كتابه ليقوم الناس به كان من أكبر الكبائر عند الله وكانت درجته فى العظمة بحسب مفسدته فى نفسه وكان قتل الإنسان ولده الطفل الذى لا ذنب له وقد جبل الله سبحانه القلوب على محبته ورحمته وعطفها عليهم وخص الوالدين من ذلك بمزية ظاهرة فقتله خشية أن يشاركه فى مطعمه ومشربه وماله من أقبح الظلم وأشده وكذلك قتله أبويه اللذين كانا سبباً فى وجوده وكذلك قتله ذو رحمه وتتفاوت درجات القتل بحسب قبحه واستحقاق من قتله للسعى فى إبقائه ولهذا كان أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبياً أو قتله نبى ومن قتل إماماً أو عالماً يأمر الناس بالقسط ويدعوهم إلى الله سبحانه وينصحهم فى دينه ” 1″ قال تعالى : ( يوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا ) ” 2″ لما أعرض الناس عن تحكيم كتاب الله والسنة المحكمة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الإكتفاء بهما وعدلوا إلى الآراء والقياس والإستحسان وأقوال الشيوخ عرض لهم من ذلك فساد فطرتهم وظلمة فى قوبهم وغلبت عليهم حتى رَبَى فيها الصغير وهرم فيها الكبير فلم يروا منكراً فجائتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن والهوى مقام الرسل والنفس مقام العقل ؛ والضلال مقام الهدى والمنكر مقام المعروف ؛ والجهل مقام العلم ؛ والرياء مقام الإخلاص والباطل مقام الحق ؛ والكذب مقام الصدق ؛ والمداهنة مقام النصيحة والظلم مقام العدل فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور وأهلها هم المشار إليهم وكانت قبل ذلك لأضدادها وكان أهلها هم المشار إليهم فإذا رأت دولة هذه الأمور قد أقبلت وراياتها قد نصبت وجيوشها قد ركبت فبطن الأرض والله خير من ظهرها وقلل الجبال خير من السهول ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس؛ إقشعرت الأرض وأظلمت السماء و ظهر الفساد فى البر والبحر من ظُلم الفجرة ؛ وذهبت البركات وقلت الخيرات وهزلت الوحوش ؛و تكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والفعال الفظيعة وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح وهذا والله منذر بسيل عذاب قد إنعقدت غمامه ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه فاعزلوا عن طريق هذا السيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح ” 3 ” وانظر إلى فساد الظلمة من لهم غير الله أيحسب هؤلاء أن الله بعيد عنهم لا يعلم بظلمهم ولن يحاسبهم على ذلك ؟ لا والله بل إن الله يمهلهم حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر يقول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يُملى للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته ثم قرأ ” وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد ” ) “4 ” وقال تعالى : ( ولا تحسبنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) أى لا تحسبه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يُعاقبهم على صنعهم بل هو يحصى ذلك عليهم ويعده عليهم عدا ” 5 ” قال تعالى : ( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس فى الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ) أى بعداوتهم عليهم فى قول أكثر أهل العلم قال بن جريج : أى يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم

قال بعض العلماء : إن من ظُلم وأُخذ ماله فإنما له ثواب ما احتثسب عنه إلى موته ثم يرجع الثواب إلى ورثته وكذلك إلى آخرهم ؛ لأن المال يصير بعده للورثة

قال أبو جعفر الداودى المالكى : هذا صحيح فى النظر وعلى هذا القول إن مات الظالم قبل من ظلمه ولم يترك شيئاً أو ترك ما لم يعللم وارثه فيه بظلم لم تنتقل تباعة المظلوم إلى ورثة الظالم لأنه لم يبقى للظالم ما يستوجبه ورثة المظلوم ” 6 ” قال تعالى : ( وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ) ” 7 ”  فى هذا تهديد لمن انتصر بظلم أى سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدى الله عز وجل فالظالم ينتظر العقاب والمظلوم ينتظر النصر ومعنى ” أى منقلب ينقلبون ” أى مصير يصيرون وأى مرجع يرجعون لأن مصيرهم إلى النار وأقبح مصير ومرجعهم إلى العقاب هو شر مرجع ” 8 ”  قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت عندهه مظلمة لأخيه من عرض أو شئ فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته وإن كانت له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه  ) ” 9 ” وقال صلى الله عليه وسلم : يقول رب العزة تعالى : ( يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) ” 10 ” قال العماء : معناه تقدست وتعاليت ؛ والظلم مستحيل فى حق الله سبحانه وتعالى كيف يجاوز سبحانه حداً وليس فوقه من يطيعه ؟ وكيف يتصرف فى غير ملك والعالم كله فى ملكه وسلطانه وأصل التحريم فى اللغة المنع فسمى تقدسه عن الظلم تحريماً لمشابهته للممنوع فى الأصل ” وجعلته بينكم محرماً ” أى لا تتظالموا والمراد لا يظلم بعضكم بعضاً وهذا توكيد لقوله تعالى ” وجعلته بينكم محرماً ” وزيادة تغليظ فى تحريمه ” 11″ قال صلى الله عليه وسلم : ( من ظلم قيد شبر من لم يجد له ناصراً غيرى ) “12 ” وكان بعض السلف يقول : لا تظلم الضعفاء فتكون من أشرار الأقوياء ” 13 ”

عن أبى هريرة قال : مكتوب فى التوراة ينادى مناد من وراء الجسر ” يعنى الصراط ” يا معشر الجبابرة ويا معشر المترفين الأشقياء إن الله يحلف بعزته وجلاله أن لا يجاوز الجسر ظالم 0

عن جابر بن عبد الله قال : ( لما رجعت مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا تخبرونى بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال : فتية كانوا منهم بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيه ثم دفعها فخرت المرأة على ركبتها وانكسرت قلتها فلما قامت إلتفتت إليه ثم قالت : تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدى والأرجل بما كانوا يكسبون سوف تعلم من أمرى وأمرك عنده غداً قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقت كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم ) “14”

عن النبي صىلى الله عليه وسلم قال : ( من ضرب ضرباً ظلماً اُقتص منه يوم القيامة ) عن عمار بن ياسر قال : لا يضرب أحد عبداً له وهو ظالم له إلا أُقيد منه يوم القيامة

عن عبد الله بن سلام قال : إن الله تعالى لما خلق الخلق واستمروا على أقدامهم رفعوا رؤسهم إلى السماء وقالوا يا رب مع من أنت ؟ قال مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه “15”

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اتؤدونَّ الحقوق إلى أهلها حتى يُقاد للشاة الجماء من القرناء ) ” 16″ ومن الظلم المماطلة بحق عليه لإنسان مع قدرته على الوفاء ولقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( مطل الغنى ظلم ) “17” عن عبد الله بن مسعود قال : ( يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينادى به على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه قال : فتفرح المرأة أن يكون لها حق على أبيها أو أخيها أو زوجها ثم قرأ ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسألون ” قال : فيغفر الله من حقه ما شاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً فينصب العبد للناس ثم يقول الله لأصحاب الحقوق إئتوا إلى حقوقكم فيقول الله تعالى للملائكة خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذى حق حقه بقدر طلبته فإن كان ولياً لله وفضل له مثقال ذرة وضاعفها الله تعالى له حتى يدخل الجنة بها وغن كان عبداً شقياً ولم يفضل له شئ فتقول الملائكة فنيت حسناته وبقى طالبوه فيقول الله خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صك له صكاً إلى النار ) ” 18″ ومن الظلم أن يستأجر أجيراَ أو إنساناً فى عمله ولا يعطيه أجرته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصيمه خصمته رجل أعطى بى ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يعطيه أجرته ) ” 19 ” ومن الظلم مجاورة الظلمة  وحثهم على الظلم بأى وسيلة كانت ومدحهم على كبرهم وفجورهم وظلمهم للناس وهو الذين يجاورون الحكام فيوحون إليهم أن ما يفعلون بالناس من هتك للأعراض والأنفس هو العدل والحرية وغير ذلك وقد حذرنا الله منهم فقال : ( و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) ” 20 ” أى تحرقكم بمخالطتهم ومصاحبتهم ومما لأتهم على إعراضهم وموافقتهم فى أمورهم وقال السدى : لا تداهنوا الظلمة ” 21″ والركون هنا السكون إلى الشئ والميل إليه بالمحبة 

قال ابن عباس رضى الله عنهما : لا تميلوا كل الميل فى المحبة ولين الكلام والمودة

قال عكرمة : هو أن يطعمهم ويودهم ؛ وقال ابو العالية : لا ترضوا بأعمالكم ” فتمسكم النار ” فيصيبكم لفحها ” ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون ” قال بن عباس : ما لكم من مانع يمنعكم من عذاب الله ” 22″

قال بن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيكون أمراء يغشاهم غواش أو حواش من الناس يظلمون ويكذبون فمن دخل عليهم وصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى ولست منه ومن لم يدخل عليهم ولم يعينهم على ظلمهم فهو منى وأنا منه ) ” 23″ قال تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ) “24”

عن سعيد بن المسيب قال : بنى جبار من الجبابرة قصراً وشيده فجاءت عجوز فقيرة فبنت كوخاً تأوى إليه فركب الجبار يوماً وطاف حول القصر فرأى الكوخ فقال : لمن هذا فقيل : لإمرأة فقيرة تأوى إليه فأمر به فهُدم فجاءت العجوز فرأته مهدوماً فقالت : من هدمه ؟ فقيل : الملك رآه فهدمه فرفعت العجوز رأسها وقالت : يا رب إذا لم أكن أنا حاضرة فأين كنت أنت ؟ قال : فأمر الله جبريل أن يقلب القصر على من فيه فقلبه ” 25″

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الداء والدواء 162

2- الفرقان آية 27

3- الفوائد لابن القيم الجوزى 57

4- مسلم 8 / 2583

5- سورة إبراهيم آية 42 -45

6- تفسير بن كثير 2 / 557

7- سورة الشورى آية 42

8- الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 7 / 6087

9- سورة الشعراء آية 227

10- الجامع لأحكام القرآن 7 / 5034

11- البخارى 5 / 2449

12- مسلم بشرح النووى 16 / 113

13- البخارى 3 / 1496

14- البخارى 186

15-البخارى 181 فى الأدب المفرد

16- مسلم 2582

17- بن حجر فى مجمع الزوائد 152

18- الجامع لأحكام القرآن 6 / 4685

19- البخارى 2227

20- هود 113

21- الجامع لأحكام القرآن 4 / 3428

22- تفسير بن كثير 2 / 461

23- الترغيب والترهيب 3 / 196

24- الصافات آية 22

25- الكبائر 137

 


المزيد في: مختارات

اترك تعليقاً