شرح الكبائر التواضع
إعلم أن القلب بأصل فطرته قابل للهدى وربما وضع فيه من الشهوة والهوى مائل عن ذلك والتطارد فيه بين جندى الملائكة والشياطين دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيتمكن ويستوطن ويكون اجتياز الثانى إختلاساَ كما قال تعالى : ( من شر الوسواس الخناس ) سورة الناس 4 وهو الذى إذا ذكر الله خنس وغذا وقعت الغفلة إنبسط ولا يطرد جند الشياطين من القلب إلا ذكر الله تعالى فإنه لا قرار له مع الذكر 0
واعلم أن مثل القلب كمثل الحصن والشيطان يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولى عليه ؛ ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرفها ؛ ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله ؛ ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد وهى كثيرة إلا أنا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التى لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان —- مختصر منهاج القاصدين 132 منها الكبر ولا سبيل لإخراج هذا المرض من القلب إلا توطين النفس وحثها دائماً على التواضع لأنه من شيمات النفس الصالحة فلا يكون الصلاح فى قلب فيه الكبر ولكن يكون الصلاح فى قلب فيه التواضع قال صلى الله عليه وسلم : ( ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( ان الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد ) مسلم 2865 قال تعالى : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) وعن أنس قال : ( كانت ناقة رسول الله العضباء لا تسبق أو لا تكاد تسبق فجاء أعرابى على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه فقال : حق على الله أن لا يرتفع شئ من الدنيا إلا وضعه ) البخارى 1 / 2872 وقال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) الفرقان آية 63 ( قالوا سلاما ) أى سكينة ووقار متوضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين
قال الحسن : العلماء حلماء ؛ وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سُفه عليهم حلموا
والهون بالفتح فى اللغة الرفق واللين وبالضم الهوان فالمفتوح منه صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران —- مدارج السالكين 311 وفى الصحيحين من حديث عياض بن حمار رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أوحى إلىَّ أن تواضعو حتى لا يفخر أحد على أحد ) وقال صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : ( العزة إزارى والكبرياء ردائى فمن نازعنى عذبته ) مسلم 4 / 136
انظر أيها المسلم إلى مكانة التواضع عند الله عز وجل وكيف أنه إذا استقر فى القلب كان القلب ليناً رحماً وأزال من النفس كبرها وريائها والسبب فى ذلك حتى لا يتعالى إنسان فيظن فى نفسه أنه بعلمه أو بجاهه أو بمنصبه فوق الخلائق فيتعالى على الناس فيكون منازعاً لله عز وجل فى كبرايائه ؛ فاحذر أن تقع فى طيات ذلك حتى لا تقع فى عذاب الله تعالى وانجوا بنفسك ووطنها على التواضع ودربها عليه فإن الكبرياء فى الدنيا ذل ومهانة لك فى الآخرة وتواضعك فى ادنيا عزك فى الآخرة ؛ ووطن نفسك على الإنقياد للحق والخضوع له ؛
لقد سُئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال : يخضع للحق وينقاد له ؛ ويقبله ممن قاله 0
وقيل التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له فى التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره
وقال الجنيد بن محمد هو خفض الجناح ولين الجانب
وقال أبو يزيد البسطامى : هو أن لا يرى لنفسه مقاماً ولا حالاً ولا يرى فى الخلق شراً منه
قال عطاء هو قبول الحق ممن كان ؛ والعز فى التواضع فمن طلبه فى الكبر فهو كتطلب الماء من النار
يذكر عن سفيان الثورى أنه قال : أعز الخلق خمسة أنفس عالم زاهد ؛ وفقيه صوفى ؛ وغنى متواضع ؛ وفقري شاكر ؛ وشريف سُنى —– مدارج السالكين 2 / 313
قال صاحب المنازل : التواضع أن يتواضع العبد لصولة الحق ؛ يعنى أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل ؛ والإنقياد والدخول تحت رِقه بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك فى مملوكه ؛ فبهذا يحصل للعبد خُلق التواضع ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بضده فقال : ( الكبر بطر الحق وغمص الناس ) ف ” بطر الحق ” رده وجحده والدفع فى صدره كدفع الصائل ” وغمص الناس ” احتقارهم وازدرائهم ؛ ومتى احتقرهم وازدراهم دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها ؛ ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة كانت النفوس المتكبرة لا يُقر له بالصولة على تلك الصولة التى فيها ولا سيما النفوس المبطلة فتضل عن صولة الحق بكبرها وباطلها فكان حقيقة التواضع خضوع العبد لصولة الحق وانقياده لها ؛ فلا يقابلها بصولته عليها —- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 2 / 317
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أزلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) سورة المائدة 54
لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة ” على ” تضميناً لمعانى هذه الأفعال ؛ فإنه لم يرد به ذل الهوان الذى صاحبه ذليل ؛ وإنما هو ذل اللين والإنقياد الذى صاحبه ذلول ————— عدة الداعية للدكتور / فرج الوصيف 118
عن أنس بن مالك قال : ( كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل الذى ينزع ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذى يصرفه ولم يُر مقدماً ركبتيه بين جليس له ) الترمذى 4 / 564 وقد تأسى به صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعون ومن سار على دربهم من علماء الأمة فكانوا فى خُلق التواضع نماذج طيبة
قال عروة بن الزبير : رأيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه على عاتقة “قرية ماء ” فقلت يا أمير المؤمنين لا ينبغى لك هذا فقال لما أتانى الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسى نخوة فأردت أن أكسرها
وولى أبو هريرة رضى الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره ويقول : طَرِقوا للأمير
ومر الحسن على صبيان معهم كِسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال : اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئاً غير ما أطعمونى ونحن نجد الكثير منه —- حياة الصحابة محمد يوسف الكاندهلوى 3 / 148
التواضع على ثلاث درجات
1- التواضع للدين : وهو أن لا يعارض بمعقول منقو ولا يتهم للدين دليلاً ولا يرى إلى الخِلاف سبيلاص ؛ والتواضع للدين هو الإنقياد لما جاء به الرسول والإستسلام له والإذعان
2- أن ترضى بما رضى به الحق لنفسه عبداً من المسلمين أخاً ؛ وأن لا ترد على عدوك حقاً ؛ وأن تقبل من المعتذر معاذيره
3- أن تتواضع للحق فتنزل عن رأيك وعوائدك فى الخدمة ورؤؤية حقك فى الصحبة وعن رسمك فى المشاهدة —- مدارج السالكين 2 / 321