غزوة بدر الكبرى

اختلف كتاب السيرة فيما بينهم حول التاريخ الذى وقعت فيه المواجهة بين الفئة القليلة والفئة الكثيرة الكافرة فمنهم من قال قد كان فى الثانى عشر من شهر رمضان ومنهم من قال إن ذلك كان فى السابع عشر من هذا الشهر والمجمع عليه إذاً أن الثلث الاوسط من الشهر الكريم هو الزمن الذى حدثت فيه تلك المواجهة عند بدر ولان الغزوة من أهم غزواته صلى الله عليه وسلم فإنهم ذكروا لها أسماء عدة هى بدر القتال ويوم الفرقان والعظمى  حيث بلغ رسول الله خبر العير المقبلة من الشام لقريش صبحة أبو سفيان وهى العير التى خرجوا فى طلبها لما خرجتى من مكة وكانوا نحو أربعين رجلاً وفيها أموال عظيمة لقريش فندب رسول الله الناس للخروج إليها وأمر من كان ظهره حاضر بالنهوض فلم يحتفل لها احتفالاً بالغاً لآنه خرج مسرعاً فى ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً

ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان فرس الزبير بن العوام وفرس المقداد بن الأسود الكندى وكان معهم سبعون بعيراً يتعقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد وكان رسول الله وعلى ومرثد بن أبى مرثد يتعقبون بعيراً ومعهم زيد بن حارثة وابنه وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يتعقبون بعيراً واستخلف على المدينة وعلى الصلاة عبد الله بن أم مكتوم ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير والراية الواحده إلى على بن أبى طالب والأخرى التى للأنصار إلى سعد بن معاذ وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصة وسار فلما قرب من الصفراء بعث بيس بن عمرو الجهنى وعدى بن الرعباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير

وكانت العير مركبة من ثروة طائلة من أهل مكة ألف بعير موقرة بالأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبى ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً انها فرصة ذهبية لعسكر المدينة وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة لذلك أعلن رسول الله فى المسلمين قائلاً هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها ولم يعزم أحد على الخروج بل ترك الأمر للرغبة المطلقة لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الإنتداب أنه سيصطدم بجيش مكة بدل العير هذا الإصطدام العنيف فى بدر ولذلك تخلف كثير من الصحابة فى المدينة وهم يحسبون أن مضي رسول الله فى هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه من السرايا الماضية ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه فى هذه الغزوة  وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حرباً

واستعد رسول الله للخروج و معه ثلثمائة وبضعة رجلاً قيل من 313 الي 317 من المهاجرين 82 أو 83 أو 68 ومن الأوس 61 و170 من الخزرج ولم يحتفلوا بهذ الخروج احتفالاً بليغاً ولا اتخذوا أهبتهم كاملة فلم يكن معهم إلا فرسان وقسم جيشه إلى كتيبتين
1- كتيبة المهاجرين وأعطى علمها لعلى بن أبى طالب
2- كتيبة الأنصار وأعطى علمها سعد بن معاذ

وجعل القيادة الميمنة الزبير بن العوام وعلى المسيرة المقداد بن عمرو وكانا هما الفارسين الوحيدين فى الجيش وقد أولى النبي (ص) هذه العير عناية بشكل خاص أنه أشخص طلحة بن عبيد الله التميمى وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يتحسسان خبر العير فبلغا التجيار من أرض الحوراء فنزلا على كشذ الجهنى فأجارهما وانزلهما وكتم عليهما حتى مرت العير ثم خرجا وخرج معهما كشذ خفيراً حتى أوردها ذا المروة وساحلت العير وأسرعت فساروا الليل والنهار فراراً من الطلب فقدم طلحة وسعيد المدينة ليخبرا رسول الله خبر العير فوجدوه قد خرج وكان قد ندب المسلمين للخروج معه وقال هذه عير قريش فيها أموال لعل الله أن ينفلكموها فأسرع من أسرع وأبطأ عنه بشر كثير قال بن اسحاق : أخبرنى من لا أتهمه عن عكرمة عن بن عباس ويزيد بن رمان عن عروة بن الزبير قالا وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخى والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتنى وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فأكتم منى ما أحدثك به قال لها : وما رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم ثلاث فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فيما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ألاانفروا يا آل غدر لمصارعكم فى ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبى قُبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل أرفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة

قال العباس : والله إن هذه لرؤيا فاكتميها ولا تذكر بها ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديق فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش فى أنديتها قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت وابو جهل بن هشام فى رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآنى أبو جهل قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال فقلت وما ذاك ؟ قال تلك الرؤيا التى رأت عاتكة قال : قلت وما رأت ؟ قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نسائكم لقد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال : انفروا فى ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حق ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ تكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت فى العرب قال العباس : فوالله ما كان منى إليه كبير إلا أنى جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئاً قال : ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبقى إمرأة من بني عبد المطلب إلا أتتنى فقالت : أأقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم ثم قال تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غيره لشئ مما سمعت ؟ قال : قلت قد والله فعلت ما كان منى إليه من كبير وأيم الله لأتعرضنَّ له فإن عاد لأكفينه قال : فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه منه قال : فدخلت المسجد فرأيته فوالله إنى لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به وكان رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر قال إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال : فقلت فى نفسي ماله لعنه الله كل هذا فرق من أشاتمه قال وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفارى وهو يصرخ ببطن الوادى واقفاً على بعيره قد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه لا أرى أن تدركموها الغوث الغوث .

أما أبا سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله وقصده إياه فاستأجر ضمضم إلى مكة مستصرخاً لقيش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه وبلغ الصريخ أهل مكة فنهضوا مسرعين وأوعبوا فى الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبو لهب فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين وحشدوا من حولهم من قبائل العرب ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدى فلم يخرج معهم من أحد من ديارهم كما قال تعالى : [ بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ]  والرئاء هو المفاخرة والتكبر على الناس والله عالم بما جاءوا به له ولهذا جزاهم عليه شر الجزاء وقال ابن عباس : هذه الآية فى المشركين الذين قاتلوا رسول الله يوم بدر فنهى الله الأمة الإسلامية أن تخرج فى قتال من أجل المفاخرة والتكبر وإنما قتالهم لابد أن يكون من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله

أقبلوا كما قال رسول الله على حرد قادرين وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم وقتل من فيهم وقد أصابوا بالأمس عمرو الحضرمى والعير التى كانت معه فجمعهم الله على غير ميعاد كما قال [ ولو تواعدتم لاختلفتم فى الميعاد ولكن ليقضى الله أمراً كان مفعولا ] أى نزلتم بعدوة الوادى الدنيا القريبة من المدينة والمشركون نزلوا بالعدوة البعيدة من المدينة ناحية مكة والعير الذى فيه أبو سفيان بما معه من التجارة أسفل منكم مما يلى سيف البحر وإذا تواعدتم أنتم والمشركون إلى مكان لاختلفتم فى الميعاد فجمعكم الله على غير ميعاد ليقضى الله عز وجل ما أراده للمسلمين من إعزاز الإسلام وأهله وإزلال الشرك وأهله من غير ملتكم ففعل ما أراد بلطف حيث خرج المسلمون من أجل العير وخرجت قريش لإنقاذ العير فالتقوا ببدر ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء حتى التقى السقاة ونهض الناس بعضهم لبعض ولما بلغ رسول الله خروج قريش استشار أصحابه فتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم ثانية فتكلموا أيضاً فأحسنوا بينما قريش تستعد لمواجهة هؤلاء المسلمون الذين يريدون أن يعترضوا القافلة فلما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب فقالوا: إنا نخشي أن يأتونا من خلفنا وكانت الحرب التى كانت بين قريش وبين بني بكر أن بن الحفص بن الأخيف أحد بني معيص بن عامر بن لؤي خرج يبتغى ضالته بضجنان وهو غلام حدث فى رأسه ذؤابة وعليه حلة له وكان غلاماً وضيئاً نظيفاً فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح أحد بني يعمر بن عوف ابن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة وهو بضجنان وهو سيد بني بكر يومئذ فرأه فأعجبه فقال من أنت يا غلام ؟ قال : انا بن الحفص بن الأخيف القرشي فلما ولى الغلام قال عامر بن يزيد : يا بني بكر أما لكم فى قريش من دم ؟ قالوا : بلى والله إن لنا فيهم دماً قال : ما كان رجل ليقتل هذا بدم كان له فى قريش فتكلمت فيه قريش فقال عامر بن يزيد يا معشر قريش قد كانت لنا فيكم دماء فما شئتم إن شئتم فأدوا علينا ما لنا قبلكم ونؤدى ما لكم قبلنا وإن شئتم فإنما هى الدماء رجل برجل فتجافوا عما لكم قبلنا ونتجافى عما لنا قبلكم فهان ذلك الغلام على هذا الحى من قريش وقالوا : صدق رجل برجل فلهوا عنه لم يطلبوا به فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بمر الظهران إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر ابن الملوح على جمل له فلما رآه أقبل إليه حتى أناخ به عامر متوحشاً بسيفه فعلاه مكرر بسيفه حتى قتله ثم خاض بطنه بسيفه ثم اتى به مكة فعلقه من الليل بأستار الكعبة فلما أصبحت قريش رأو سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقاً بأستار الكعبة فعرفوه فقالوا : إن هذا لسيف عامر بن يزيد عدا عليه مكرز بن حفص فقتله فكاد ذلك من أمرهم فبينما هم فى ذلك من حربهم حجز الإسلام بين الناس فتشاغلوا به حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر

وخرج رسول الله فى ليال مضت من شهر رمضان فى أصحابه واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم أخا بني عامر بن لؤى على الصلاة بالناس ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان أبيض وكان امام رسول الله رايتان سوداوان إحداهما مع على بن أبى طالب والأخرى مع الأنصار وسلك رسول الله طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة ثم على العقيق ثم على ذى الحليفة ثم على أولات الجيش ثم مر على تريان ثم على ملل ثم على غميس الحمام وهى الطريقة المعتدلة حتى إذا كان يعرف الظبية لقوا رجلاً من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبراً فقال له الناس سلم على رسول الله قال : أوفيكم رسول الله ؟ قالوا نعم فسلم عليه ثم قال إن كنت رسول الله فأخبرنى عما فى بطن ناقتى هذه قال له سلمة بن سلامة بن وقش لا تسأل رسول الله وأقبل على فأنا أخبرك عن ذلك نزوت عليها ففى بطنها منك سخلة فقال رسول الله مه أفحشت على الرجل ثم أعرض عن سلمة

وكان من قصة أبا سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي ولكنه لم يزل حذراً متيقظاً وضاعف حركاته الإستكشافية ولما اقترب من بدر تقدم عيره حتى لقى مجدى بن عمرو وسأله عن جيش المدينة فقال : ما رأيت أحداً أنكره إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا فى شن لهما ثم انطلقا فبادر أبو سفيان إلى مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذا والله علائف يثرب فرجع إلى عيره سريعاً وضرب وجهها محولاً اتجاهها نحو الساحل غرباً تاركاً الطريق الرئيسي الذى يمر ببدر على اليسار وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع فى قبضة جيش المدينة وأرسل رسالته إلى جيش مكة التى تلقاها فى الجحفة وهم الجيش المكى بالرجوع وذلك لما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم ولكن قام طاغية قريش أبو جهل فى كبرياء وغطرسة قائلاً والله لا أرجع حتى نرد بدراً فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف القيان رغم ذلم أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه فرجع هو وبني زهرة وهو يقصد بدراً فواصل سيره حتى نزل بدراً وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى فى هذه اللحظات تأكد النبي (ص) أنه لا مفر من ملاقاة الأعداء وخاصة حينما علم بفوات العير التى يقودها أبا سفيان وعلم أن قريش قد اتت بخيلها وخيالائها من أجل محاربة هؤلاء النفر من المسلمين فأخذ يحث المسلمين على القتال فعقد رسول الله مجلساً استشارياً هذا المجلس يتكون من حزبين الأول المهاجرين و الثانى من الأنصار هكذا يكون حال الجيش الإسلامى لابد للقائد الذى يريد أن يقود حرباً أن يعقد مثل هذا المجلس أو يكون هناك مجلس حرب يعقد لهذه الحالات الطارئة وغير الطارئة حتى يستطيع أن يقود حرباً قليلة الخسائر لمن يقودهم وحتى يكون النصر حليفهم فى كل عصر وهو ما أخذ به أعداء الإسلام فإننا نرى من الدول من تعقد مجلس حرب طارئ مصغر حتى يستطيعوا قيادة الحرب وهو مما يسهل عليهم قيادة الحرب هكذا أسس لنا رسول الله هذا المجلس الإستشارى وذلك عملاً بقوله تعالى : [ وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ] فكان أمر الشورى من الله لرسوله ومن الرسول لصحابته حتى الحرب يرضى جميع أطراف المسلمين المهاجرين والأنصار وحتى لا يقال بأن النبي (ص) كان يفرض رأيه على الناس أو ينفرد برأيه على المسلمين وكان النبي (ص) قد أحدث فى هذه الغزوة نظاماً جديداً لم يكن معروفاً لدى قريش كانت تعتمد فى حربها على طريقة الكر والفر أما رسول الله فقد قسم الجيش إلى ثلاث أقسام قلب وميمنة وميسرة هذا النظام الذى أدلى به الأعداء لحسن قيادة النبي (ص) لهذه الحرب وهذا بعدما علم رسول الله أن أمر الحرب أمر لابد منه فشاور أصحابه فى ذلك الأمر وأى أمر أصعب مما هم فيه فإن المسلمين الذين خرجوا ما كانوا للحرب مستعدين فغاية ما يتوقعونه من خروجهم نشوب نزال بينهم وبين هذا العدو الذى يتولى حراسة القافلة القريشية.

 

مشاورة النبي (ص) لأصحابه

فلما اجتمع الخارجون بأمر من النبي (ص) عرض عليهم الأمر وأخبرهم بأنه لا مناص من حرب بينهم وبين قريش قام أبو بكر ثم عمر رضى الله عنهما فتحدث بكلمات حاملة التأييد لكل قرار يتخذه النبي (ص) وانهم على استعداد للتضحية بالنفيس والرخيص وهم ينفذون أوامره (ص) فلما فرغا من كلامهما ،  قام المقداد بن الأسود فقال : يا رسول الله امضي لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول كما قالت بنوا اسرائيل لموسي إذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن اذهب انت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون فوالذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يعنى مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فدعا لهم بخير ثم قال (ص) اشيروا على أيها الناس وإنما أريد الأنصار لأنهم كانوا عدد الناس وخاف أن لا تكون الأنصار ترى نصرته ممن داهمه بالمدينة وليس عليهم ان يسير بهم فقال له سعد بن معاذ : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟قال : أجل قال : قد آمنا بك وصدقناك وأعطيناك عهودنا فامض يا رسول الله لما أمرت فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً إنا لصُبر عند الحرب صُدق عند اللقاء لعل الله أن يريد منا ما تقر به عينيك فسر بنا على بركة الله ،  ثم ارتحل رسول الله من زفران فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدُبة وترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم ثم نزل قريب من بدر فركب هو ورجل من أصحابه والرجل هو أبو بكر الصديق واستوقف أعرابياً يقيم فى المكان فسأله عن قريش وعن محمد واصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ : لا أخبركما حتى تخبرانى من أنتما ؟ فقال له رسول الله إذا أخبرتنا أخبرناك فقال الشيخ : ذاك بذاك قال : نعم قال الشيخ فإنه قد بلغنى أن محمد وأصحابه خرجوا يوم كذا فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذى به رسول الله وبلغنى أن قريش خرجوا يوم كذا فإن كان الذى أخبرنى صدق فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذى به قريش فلما فرغ من خبره قال : من أنتما ؟ فقال رسول الله : نحن من ماء ثم انصرف قال الشيخ : ماء من ماء أما من ماء فى العراق ،  ثم رجع النبي (ص) إلى أصحابه فلما أمسي بعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الجزله عليه فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وعريض أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما وسألوهما و رسول الله قائم يصلى فقال : نحن سقة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونوالأبى سفيان فضربوهما فلما اذلقوهم قالا نحن لأبى سفيان فتركوهما فركع رسول الله وسجد سجدتين ثم سلم وقال : إذا أصدقاكم ضربتموهم وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبرانى عن قريش قالا هم والله وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى والكثيب قالا لا ندرى فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا عتبة بن الربيعة وشيبة وابو البخترى بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر ابن نوفل وطُعيمة بن عدى بن نوفل والنضر بن الحارث ونُبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن ود فأقبل رسول الله على الناس فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ،  هذا مصرع فلان يضع يده على الأرض هاهنا فما أماط أحد عن موضع يد رسول الله ،  ولما راى أبو سفيان أنه قد احرز عيره أرسل إلى قريش إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم واموالكم فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم ثلاث فننحر الجزور ونسقى الخمر ونطعم الطعام وتعزف علينا القيان حتى تسمع بنا العرب وبسيرنا فلا يزالون يهابوننا “23” وكان بين طالب بن أبى طالب وكان فى القوم وبين بعض القريشين محاورة فقالوا : والله يا بني هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم مع محمد فرجع طالب إلى مكة مع من رجع وقال فى ذلك لاهـم إمـا يغزون طـــالب فى عصـبة محــالف محارب فى منقب من هذه المناقب فليكن المسلمون غير السالب وليكن المغلوب غير الغالب.

وسار رسول الله حتى نزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر فقال : أشيروا على فى المنزل فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله أنا عالم بها وبقلبها إن رأيت أن نسير إلى قلب قد عرفناها فهى كثيرة الماء عذبة فننزل ونسبق القوم إليها ونغور ما سواها من الماء ،  قال بن اسحاق : حُدثت عن رجال بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب ابن المنذر بن الجموح قال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه أم هو أم هو الرأى والحرب والمكيدة قال : بل هو الرأى والحرب والمكيدة قال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى ناتى ادنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما رواءه من القلب ثم نبني عليه حوض فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله : أشرت بالراى فنهض رسول الله ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم مر بالقلب فعورت وبني حوضاً على القلب الذى نزل عليه فمُلئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية “26” وزعم البعض أن الحباب لما أشار على رسول الله نزل ملك من السماء وجبريل عند رسول الله فقال الملك يا محمد ربك يقرأك السلام ويقول لك إن الرأى ما أشار به الحباب فنظر رسول الله إلى جبريل فقال ليس كل أهل السماء أعرف يا رسول الله وأنه ملك وليس بشيطان .

غرفة العمليات العسكرية

وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله أن يبني المسلمون مقراً لقيادته استعداد الطوارئ وتقدير الهزيمة قبل النصر حيث قال : يا نبي الله ألا نبي لك عريشاً تكون فيه ونعد عنك ركائبنا ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقى بمن ورائنا من القوم فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثني عليه رسول الله خيراً ودعا له بخير وبني المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع فى الشمال الشرقى لميدان القتال ويشرف على ساحة المعركة كما تم انتخاب فرقة من شاب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول الله حول مقر قيادته ،  وبات رسول الله يصلى إلى جذع شجرة هناك وبات المسلمون هادئ الأنفاس منير الآفاق عمرت الثقة قلوبهم وأخذوا من الراحة قسطهم يأملون أن يرو بشائر ربهم بعيونهم صياحاً ،  قال تعالى [ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ] ورد أن رسول الله لما كان فى يوم بدر فى العريش مع الصديق رضى الله عنه وهما يدعوان الله أخذت رسول الله سنة من النوم ثم استيقظ مبتسماً فقال : أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى [ سيهزم الجمع ويولون الدبر] نزل رسول الله حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء زملة دعصة وأصاب المسلمون ضعف شديد وألقى الشيطان فى قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون منجسين فأمطر الله عليهم المطر فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه الماء ومشي الناس عليه والدواب فسارو إلى القوم وأمد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة مردفين فكان جبريل فى خمسمائة مجنبه وميكائيل فى خمسمائة وأنزل الله عليهم ماء ليطهرهم من أى حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر وأذهب عنهم رجس الشيطان من أى وساوس وخاطر يسئ وهو تطهير للباطن وربط على قلوبهم بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن ليثبت به الأقدام ، أما قريش فقد قضت ليلتها هذه فى المعسكر بالعدوة القصوى ولما أصبحت أقبلت فى كتائبها ونزلت من الكثيب إلى وادى بدر وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله فقال دعوهم فما شرب أحد منهم يزمئذ إلا قتل سوى حكيم بن حزام فإنه لم يُقتل واسلم بعد ذلك وحسن إسلامه فلما اطمئنت قريش بعثت عمير بن وهب الجمحى للتعرف على مدى قوة الجيش فى المدينة فدار عمير بفرسه حول المعسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون ولكن أمهلونى حتى أنظر للقوم كمين أو مدد فضرب هذا الوادى حتى أبعد فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال ما وجدت شيئاً ولكنى قد رأيت معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم أعداداً فما خيرالعيش بعد ذلك فروا رأيكم ،  فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشي فى القوم فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها المطاع فيها هل لك أن لا تزال فيها بخير إلى آخر الدهر قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو الحضرمى قال قد فعلت أنت على بذلك إنما هو حليفى فعلى عقله وما أصيب من ماله فأت بن الحنظلية يعنى أبا جهل فإنى لا أخشى أن يسجر أمر الناس غيره ثم قام عتبة خطيباً فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تضعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره أن ينظر إليه قُتل ابن له أو ابن خاله أو رجل من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذى أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون قال حكيم فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نتل درعاً فهو يهيأ فقلت له يا أبا الحكم إن عتبة أرسلنى إليك بكذا وكذا قال : فانتفخ سحره حين رأى محمداً وأصحابه فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعثه ما قال ولكنه رأى محمداً وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر الحضرمى فقال هذا حليفك يريد أن يرجع الناس وقد رأيت ثأرك بعينيك فقم فأنشد حفرتك ومقتل أخيك فقام عامر الحضرمى فاكتشف ثم صرخ واعمراه واعمراه قال فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوثقوا على ما هم عليه من الشر وافسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة فلما بلغ عتبة قول أبى جهل انتفخ والله سحره قال : سيعلم مصفراً استه من انتفخ سحره أنا أم هو ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها فى رأسه فما وجد فى الجيش بيضة شسعة من عظم رأسه فلما ذلك اعتجر على رأسه ببرد له .

الجيشان يتقابلان

ولما طلع المشركون وترائ الجمعان قال رسول الله (ص) اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها وفخرها تحاك وتكذب رسولك اللهم نصرك الذى وعدتنى اللهم أحنهم الغداة وقد قال رسول الله ورأى عتبة فى القوم على جمل له أحمر إن يكن فى أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا وعدل رسول الله صفوف المسلمين وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب فقد كان فى يده قدح يعدل به وكان سواد ابن غزية مستنصلاَ من الصف فطعن فى بطنه بالقدح وقال له استو يا سواد فاعتنقه سواد وقبل بطنه فقال ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله قد حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك فدعا له رسول الله بخير ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأ القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص فى أمر الحرب فقال : إذا أكتبوكم يعنى كثروكم فارموهم واستبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش ، أما قريش لما عزموا على الخروج ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب فتبدى لهم ابليس فى صورة سراقة بن مالك المدلجى وكان من أشراف كنانة فقال لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم من أن تأتيكم بشئ تكرهونه فخرجوا والشيطان جار لهم لا يفارقهم فلما بعثوا للقتال ورأى عدو الله جند الله ققد نزلت من السماء فر ونكص على عقبيه فقالوا إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت إنك جارنا لا تفارقنا فقال : إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب قال تعالى : [ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما ترأت الفئتان نكص على عقبيه وقال نى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب ] .

وقود الحرب الأسود بن عبد الأسد المخزومى

خرج الأسود بن عبد الأسد وكان رجلاً شرساً سيئ الخلق فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه فلما التقى ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد زعم أن يُببر يمينه و اتبعه حمزة فضربه حتى قتله فى الحوض ،  فها هى قريش تبعث قبل نشوب المعركة بعد الأسود ثلاثة رجال هم عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة ينادون على المسلمين هل من مبارز ؟ فيخرج لنا ؟ فأخرج إليهم رسول الله عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبى طالب فلما دنوا وقربوا قال عتبة : من أنتم ؟ فانتسب الثلاثة المسلمون إليهم فقال الرجال المشركون : نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة عتبة بن الحارث وبارز حمزة سيبة وبارز على الوليد بن عتبة فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه وكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهز عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه،  وقد نزلت فيهم هذه الآية [ هذان خصمان اختصموا فى ربهم ] ،  عن على رضى الله عنه قال : نزلت فينا هذه الآية وفى مبارزتنا يوم بدر ” هذان خصمان اختصموا فى ربهم — إلى قوله الحريق “.

الهجوم من كلا الطرفين :

كانت نهاية هذه المبارزة سيئة بالنسبة للمشركين فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة فاستشاطوا غضباً وكروا على المسلمين كرة رجل واحد واما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتوالية وهم مرابطون فى مواقعهم واقفون موقف الدفاع وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة وهم يقولون أحد أحد.

عن عبد الله البهى قال برز عتبة وشيبة والوليد وبرز إليهم حمزة وعبيدة وعلى فقالوا تكلموا نعرفكم فقال حمزة : أنا أسد الله وأسد رسول الله أنا حمزة بن عبد المطلب فقال : كفؤ وقال على : أنا عبد الله وأخو رسول الله وقال عبيدة : أنا الذى فى الحلفاء فقام كل رجل إلى رجل فقتلهم الله فقالت هند فى ذلك : أعينى جودى بدمع سرب على خير خندف لم ينقلب تداعـى لــه رهطه عدوة بـنوا هاشم بـنوا المطلب يــذيـقـونه حـــد أسيافهم يـعلونـه بعــدما قد عطب،  ولهذا نذرت هند أن تأكل من كبد حمزة ، قلت : وعبيدة هذا هو بن الحارث بن المطلب ولما جاءوا به إلى رسول الله اضجعوه إلى جانب موقف رسول الله فأشرفه رسول الله قدمه فوضع خده على قدمه الشريفة وقال يا رسول الله لو رآنى أبو طالب لعلم أنى أحق بقوله : ونسلمه حتى نصرع دونه ونذهل من أبنائنا والحلائل ثم مات رضى الله عنه فقال رسول الله : ” أشهد أنك شهيد ” رواه الشافعى ؛ وكان أول قتيل من المسلمين فى المعركة مهجع مولى عمر بن الخطاب رمى بسهم فقتله قال ابن اسحاق : فكان أول من قُتل ثم رمى بعده حارثة بن سراقة أحد بني عدى بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فمات ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وقال : أمر رسول الله أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال إن أكتنفكم ،  القوم فانضحوهم ،  عنكم بالنبل ،  ولما دنا العدو وتواجه القوم قام رسول الله فى الناس فوعظهم وذكرهم بما لهم فى الصبر و الثبات من النصر والظفر العاجل وثواب الله الآجل وأخبرهم أن الله تعالى قد أوجب الجنة لمن استشهد فى سبيله فقام عمير بن الحمام فقال : يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال : نعم قال : بخ بخ يا رسول الله قال : و ما يحملك على قولك بخ بخ ، قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ؛ قال : فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن حييت حتى آكل من تمراتى هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قُتل فكان أول قتيل وأخذ رسول الله ملئ كفه من الحصى فرمى بها وجوه العدو فلم تترك رجلاً منهم إلا ملأت عينه وشغلوا بالتراب فى أعينهم وشغل المسلمون بقتلهم فأنزل الله فى شأن هذا الرمى ،  قوله تعالى [ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ] ،  هذا يوم بدر ليعرف المؤمنون نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته ،  وأخذ رسول الله يدعوا ربه ويناجيه ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتنى اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك حتى إذا حمى الوطيس واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال وبلغت المعركة قمتها قال : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً وبالغ فى الإبتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه فرده عليه الصديق وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك ،  ثم انتبه رسول الله فقال : أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع أى “الغبار” وخرج رسول الله فحث أصحابه على القتال ،  ودخل رسول الله العريش وسعد بن معاذ على باب العريش الذى فيه رسول الله متوحش السيف فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو ورأى رسول الله فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له رسول الله : والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؟ قال : أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكان الأثخان فى القتل أحب إلى من استبقاء الرجال

نزول الملائكة :

أوحى الله تعالى إلى ملائكته [ إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى فى قلوب الذين كفروا الرعب ] ،  هذه نعمة خفية أظهرها الله لهؤلاء المؤمنين وهى أن الله أوحى إلى ملائكته الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه والمؤمنين يوحى إليهم فيما بينهم أن يثبتوا الذين آمنوا وكان ذلك بأن الملك يأتى الرجل من أصحاب النبي (ص) فيقول سمعت هؤلاء يعنى المشركين والله حملوا علينا لتكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضاً بذلك فتقوى أنفسهم وألقى الله عز وجل فى قلوب الذين كفروا الرعب وضرب الملائكة والذين آمنوا أعناق الذين كفروا وقطعوا أطرافهم وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم قال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربه بالسوط فوقه وصوت الفارس فوقه يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد أحطم أنفه وشق وجهه كضرب السوط فاحصر ذلك أجمع فجاء الأنصارى فحدث ذلك رسول الله فقال : صدقت ذلك مدد السماء الثالثة وقال أبو داود المازنى : إنى لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى فعرفت أنه قتله غيرى وجاء رجل من الأنصارى بالعباس بن عبد المطلب أسيراً فقال العباس : إن هذا والله ما أسرنى لقد أسرنى رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس آبلق وما أراه فى القوم فقال الأنصارى أنا أسرته يا رسول الله فقال اسكت أيدك الله بملك كريم وأسر بنى عبد المطلب ثلاثة العباس وعقيل ونوفل بن الحرث ،  وقد اتفق المسلمون على أن الملائكة التى تسبح الله بالليل والنهار دون فتور قد نزلوا يوم بدر بأمر من الله ليقوموا بدور بارز فى جعل فئة من المؤمنين تحرز النصر على الكافرين بيدا أن علماء المسلمين اختلفوا حول ماهية هذا الدور الذى كان للملائكة فى معركة بدر فذهبت جماعة إلى أن الملائكة قاتلت جنباً إلى جنب مع المؤمنين وذكرت أخرى أن الملائكة قوت عزائم المقاتلين حتى يصدوا أمام الكثرة الكافرة من المشركين وقبل الإدلاء برأى فى هذه القضية نلمح إلى رأى كلا الفريقين

أولاً : القائلون بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر لونظرنا إلى أصحاب هذا الرأى نجدهم قدامى كانوا أم محدثين استخدموا العقل والنقل معاً فى البرهنة على رأيهم

1- أن الله تعالى قال : [ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ] ،  فأعداد الملائكة الواردة فى هذه الآيات لا تدل على أنها نزلت للقتال بل للدعاء والتسبيح وتكثير المسلمين فى مواجهة المشركين

2- أن الملك الواحد يكفى لإهلاك أهل الأرض فأى فائدة من إرسال الملائكة بعددهم هذا للحرب والحالة هذه إن لم يكن لتثبيت المؤمنين

3- أن من يقرأ المصادر الأصلية للسيرة يجد صفحاتها حوت أسماء صناديد الشرك الذين لقوا حتفهم على أيدى المسلمين الأشاوس يوم بدر وقد ذكر لنا الرواة أسماء الأبطال المؤمنين الذين أحهزوا عليهم فإذا كان كذلك فمن قتله الملائكة من المشركين إذن فهذا يجعل التثبيت للمؤمنين راجع على ما قالوه من القتال للملائكة فى غزوة بدر

4- لو حاربت الملائكة لكانوا إما أن يسيروا بحيث يراهم الناس فيكونون والحالة هذه فى صورة آدميين يكثرون جيش محمد وهذا يتعارض مع قوله تعالى : [ ويقللكم فى أعينهم ] وإما أن يظهروا فى صورتهم الحقيقية فلا يراهم أحد من المسلمين أو المشركين إذ لو رأوهم بصورتهم الحقيقية لانتشر الرعب والفزع بينهم

5- أن من يقرأ الآحاديث التى اعتمد عليها القائلون بأن الملائكة قاتلت قتالاً فعلياً يوم بدر يجدها تذكر أن الملائكة قاتلت فى هذا اليوم وهى راكبة الخيول البواق وهذا يقتضى أنهم نزلوا على غير صورتهم الحقيقية فيراهم الناس جميعاً مسلمون كانوا أم كفار ويتناقلون أخبارهم فتصبح القلة كثرة وهذا يتناقض مع ما جاء فى القرآن الكريم من قول رب العالمين ” كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ،  وإما أن يكونوا نزلوا على صورتهم الحقيقية وهى لا تستقيم مع ركوبهم للخيل المشار إليه

6- ما جاء ذكره فى المصادر الأصلية للسيرة من تثبيت الملائكة للمؤمنين كما رواه البيهقى عن ابن عباس قال كان الملك يتصور فى صورة من يعرفونه من الناس يثبتونهم فيقول إنى قد دنوت منهم وسمعتهم يقولون لو حملوا علينا ما ثبتنا ليسوا بشئ إلى غير ذلك من القول فهم إذن جاءوا للتثبيت

7- أن من يقرأ قول الله تعالى : [ إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا ] ،  يجد أن الآية صريحة وأن الملائكة نزلت للتثبيت ؛ ومن الباحثين المحدثين من أخذ بهذا الرأى الدكتور محمد الطيب النجار يرحمة الله تعالى وبرهن على ذلك 1- أن الله لو قدر للملائكة أن تشترك بالفعل فى القتال لما كان هناك مزية للمسلمين الذين اشتركوا فى الغزوة ولما ان هناك داع للأخذ بالأسباب العادية فى هذا الوجود حيث يأمر الله المسلمين بإعداد العدة للقضاء على الكفار فيقول:[ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ] ،  2- أن الملائكة لو اشتركت فى القتال بهذا العدد الضخم ثم انجلت المعركة عن قتل سبعين من المشركين فحسب لكان هذا موقفاً مخزياً للملائكة ولاعتبر ذلك نصراً للمشركين وهزيمة للملائكة والمسلمين وبذلك يتبين لنا أن الملائكة لم تنزل للقتال وإنما نزلت لتثبيت القلوب وتقوية الإيمان ومما يزيد المعنى تأكيداً وقوة قول الله بعد ذلك [ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ].

ثانياً : القائلون بقتال الملائكة :

أما الفريق الثانى فإنه يجزم بأن الملائكة قاتلت إلى جانب المسلمين واستدلوا على ذلك بأحاديث بلغت مبلغ التواتر جاءت على ألسنة المسلمين وأيدها سيد المرسلين وشهد بها من قاتل من المشركين الذين نجو يوم بدر منها ما قاله عبد الرحمن بن عوف رايت يوم بدر رجلين بين يدى النبي (ص) أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره يقاتلان أشد القتال ثم يليهما ثالث من خلفه ثم رابعهما أمامه ؛ وما روى عن صهيب أنه قال : ما ادرى كم يد مقطوعة أو ضربة جائفة لم يدم كلها يوم بدر قد رأيتها ؛ وما قاله ابن بردة بن نيار : جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتهما بين يدى رسول الله أما رأسان فقتلتهما واما الثالث فإنى رأيت رجلاً أبيض طويل ضربه فتهدى أمامى فأحذ رأسه فقال النبي (ص) : ” ذاك فلان من الملائكة ” وكان بن عباس يقول لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر فقد كان الملك يتصور فى صورة من يعرفونه من الناس يثبتهم فيقول : ” إنى دنوت منهم فسمعتهم يقولون : لو حملوا علينا ما ثبتنا ليسوا بشئ ” وذاك قوله تعالى : [ إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا ] ومن الأدلة التى اعتمد عليها هذا الفريق أن الملائكة قتلت عدداً من المشركين يوم بدر وان قتلها لهم كان مميزاً من قتل المسلمين للكافرين فكان ضرب الملائكة فوق الأعناق وعلى البنان فكان كل موضع أصابوه بضرباتهم للمشركين يشتعل فيه النار حتى أن أبا جهل قال لإبن مسعود : أنت قتلتنى إنما قتلنى الذى لم يصل سنانى إلى سنبك فرسه وإن إجتهدت ولقد مال إلى هذا الرأى السواد الأعظم من أئمة التفسير منهم الإمام الرازى الذى قال : إن الملائكة قاتلت يوم بدر وأن هذا ما ذهب إليه الأكثرون ،  وأنا أميل إلى الرأى القائل أن عدداً من الملائكة قاتلت مع المسلمين والبعض الآخر لم يشارك وإنما نزلوا للتسبيح والتحميس للمقاتلين ونضيف على ما قاله صاحب هذا الرأى ما ذكره باحث آخر من أن الملائكة الذين نزلوا للقتال نزلوا بمهمة قتالية محدودة وأمروا بعدم تجاوزها حتى يظل المسلمون يأخذون بأسباب القوة والمنعة كلما دخلوا حرباً [ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ] ،  وآية ذلك أن قدرة الله هى التى جعلت الملك الواحد يفعل بقوم لوط وصالح ما يفعل فهذه القدرة ذاتها جعلت الملائكة لا يقومون بأكثر مما قاموا به فى بدر فسبحانه وتعالى إذا قال للشئ كن فيكون ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ويؤيد ذلك ما قاله أبو الحسن السبكى عندما سُئل عن الحكمة من قتال الملائكة مع النبي (ص) ببدر مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناح فأجاب وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي (ص) وأصحابه فتكون الملائكة مدد على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التى أجراها الله تعالى فى عباده والله تعالى فاعل الأشياء.

الرسول ينهى المسلمون عن قتل رجالاً من المشركين :

عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي (ص) قال لأصحابه يومئذ :” إنى قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كُرهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقى منكم أحد من بنى هاشم فلا يقتله ومن لقى أبا البخترى بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه إنما أُخرج مستكرهاً فقال أبو حذيفة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه السيف قال فبلغت رسول الله فقال لعمر : يا أبا حفص قال عمر : والله إنته لأول يوم كنانى فيه رسول الله بأبى حفص أيُضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟

قال عمر : يا رسول الله دعنى فلأضربن عنقه بالسيف فوالله لقد نافق فكان أبو حذيفة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عنى الشهادة فقتل يوم اليمامة .

قال ابن هشام : إنما نهى رسول الله عن قتل البخترى لأنه كان أكف القوم عن رسول الله وهو بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيئ يكرهه وكان ممن قام فى نقض الصحيفة التى كتبت قريش على بنوا هاشم وبني عبد المطلب فلقيه المجذر بن زيادى البلوى حليف الأنصار ثم بنى سالم بن عوف فقال المجذر لأبى البخترى : إن رسول الله قد نهانا عن قتلك ومع أبى البخترى زميل له قد خرج معه من مكة وهو جُنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد فقال المجذر والله ما نحن بتاركى زميلك ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك فقال : لا والله إذن لأموتن أن وهو جميعاً لاتحدث عنى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصاً على الحياة فقال أبو البخترى : حين نازله المجذر وأبى إلا القتال يرتجز .

الهزيمة الساحقة :

وبدأت أمارات الفشل والإضطراب فى صفوف المشركين وجعلت تنهزم أمام حملات المسلمين العنيفة واقتربت المعركة من نهايتها وأخذت جموع المشركين فى الفرار والإنسحاب المبدد وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت عليهم الهزيمة.

مقتل أمية ابن خلف

عن عبد الرحمن بن عوف قال : كان بن خلف لى صديقاً بمكة وكان اسمى عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة فكان يلقانى إذ نحن بمكة فيقول يا عبد عمرو ارغبت عن اسم سماك أبوك ؟ فأقول نعم فيقول : فإنى لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به أما أنت فلا تجيبني باسمك الآول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف قال : فكان إذا دعانى بعبد عمرو لم أجبه قال : قلت له : يا أبا على اجعل ما شئت قال : فأنت عبد الإله قال : قلت نعم قال : فكنت إذا مررت به قال يا عبد الإله فأجبه فأتحدث معه حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه على بن أمية أخذ بيده ومعى أدرع لى قد استلتها فأنا أحملها فلما رآنى قال : يا عبد عمرو فلم أجبه فقال : يا عبد الإله فقلت نعم قال : هل لك فى فأنا خير لك من هذه الأدرع من يدى وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول ما رأيت يوماً كاليوم قط مالكم حاجة فى اللين ؟ ثم خرجت أمشي بهما ، وعنه أنه قال : قال لى أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما : يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة فى صدره ؟ قال : قلت : ذاك حمزة بن عبد المطلب قال : ذاك الذى فعل بنا الأفاعيل قال عبد الرحمن : فوالله إنى لأقودهما إذ رآه بلال وكان هو الذى يُعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام فيخرجه رمضاء مكة إذ حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول : لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد قال : فلما رآه قال : رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا قال : قلت أى بلال أسيرى ؟ قال : لا نجوت إن نجا قال : قلت أتسمع يا بن السوداء ؟ قال : لا نجوت إن نجا قال : ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا قال : ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا قال : فأحاطوا بنا حتى جعلونا فى مثل المسكة وأنا أذب عنه قال فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط قال : فقلت إنج بنفسك و نجاء بك فوالله ما أغنى عنك شيئاً قال : فهبروهما بأسيافهما حتى فرغوا منهما قال : فكان عبد الرحمن يقول : يرحم الله بلالاً ذهبت أدرعى وفجعنى بأسيرى قال عبد الرحمن : قال : كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظنى فى صاغتى بمكة وأحفظه فى صاغته بالمدينة فلما ذكرت الرحمن قال : لا أعرف الرحمن كاتبنى باسمك الذى كان فى الجاهلية فكاتبته عبد عمرو فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس فأبصره بلال فخرج معه فريق من الأنصار فى آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه .

مقتل أبو جهل:

ولما فرغ رسول الله (ص) من عدوه وأمر بأبى جهل أن يلتمس فى القتلى وكان أول من لقى أبا جهل كما يقول بن اسحاق : حدثنى ثور بن زيد عن عكرمة عن بن عباس وعبد الله بن أبى بكر قالا : قال معاذ بن عمر بن الجموح أخو بنى سلمة : سمعت القوم وأبى جهل فى مثل الحرجة وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه فلما سمعتها جعلته من شانى فصمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت (طيرت) قدمه بنصف ساقه فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضحة ، النوى حين يضرب بها قال : وضربنى ابنه عكرمة على عاتقى فطرح يدى فتعلق بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي وأنا لأسحبها خلفى فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم امتطيت بها عليها حتى طرحتها قال بن اسحاق ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان ثم مر بأبو جهل وهو عقير ،  معوز بن عفراء فضربه حتى أتبته وتركه وبه رمق وقاتل معوز حتى قُتل فمر عبد الله بن مسعود بأبى جهل حين أمر رسول الله أن يلتمس فى القتلى وقال لهم رسول الله فيما بلغنى : انظروا إن خفى عليكم فى القتلى إلى أثر جرح فى ركبته فإنى أزحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فحجش ،  فى أحدهما حجشاً لم يزل أثره به ؛ قال ابن مسعود : فوجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلى على عنقه قال : وقد كان ضبث بن مرة بمكة فآزانى ولكزنى ثم قلت له : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزانى ؟ قال أعمد من رجل قتلتموه أخبرنى لمن الدائرة اليوم ؟ قال : قلت لله ولرسوله  ، قال بن اسحاق : وزعم رجال من بني مخزوم أن بن مسعود قال : كان يقول لى لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعى الغنم قال : ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله فقلت يا رسول الله هذه رأس عدو الله فقال : الله الذى لا إله غيره وكانت يمين رسول الله فقلت نعم والله الذى لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله فحمد الله ، وقتل عمر بن الخطاب يومئذ خاله العاص بن هشام ابن المغيرة ونادى أبو بكر الصديق رضى الله عنه ابنه عبد الرحمن وهو يومئذ مع المشركين فقال : أين مالى يا خبيث فقال عبد الرحمن لم يبق غير نسكة ويعبوب وصارم يقتل ضلال الشيب ، وانقطع يومئذ سيف عكاشة فلما أخذه من رسول الله فعاد سيفاً فى يده طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل حتى فتح الله تعالى على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد حتى قُتل فى حرب الردة وهو عنده ،  ومر مصعب بن عمير العبدى بأخيه أبى عزيز الذى خاض المعركة ضد المسلمين مر به واحد من الأنصار يشد يده فقال مصعب : للأنصارى شد يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك فقال أبو عزيز : لأخيه مصعب أهذه وصاتك بى فقال مصعب إنه أى الأنصارى أخي دونك.

المشركين ودفنهم فى القليب :

لما انتهى المسلمون من غزوة بدر وكان النصر حليفهم أمر النبي (ص) بالقتلى أن يطرحوا بالقليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ فى درعه فملأها فذهبوا ليحركوه فتزايل لحمه فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة فلما ألقوهم فى التراب وقف عليهم النبي (ص) فقال : ” يا أهل القليب هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإنى قد وجدت ما وعد ربى حقاً قالت عائشة الراوية لهذا الحديث : فقال له أصحابه : يا رسول الله أتكلم قوماً موتى ؟ فقال لهم : لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقاً قالت عائشة : والناس يقولون : لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال لهم رسول الله : لقد علموا .

وروى عن أنس قال : سمع أصحاب رسول الله من جوف الليل وهو يقول : يا أهل القليب يا عتبة بن ربيعة و يا شيبة بن ربيعة ويا أمية بن خلف ويا أبا جهل فعد من كان منهم فى القليب هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإنى وجدت ما وعدنى ربى حقاً فقال المسلمون : يا رسول الله أتنادى قوماً قد جُيفوا ؟ قال : ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونى ، ولقد رأى النبي (ص) فى وجه بن أبى حذيفة لما أخذ عتبة بن ربيعة إلى القليب فإذا هو كئيب وقد تغير فقال : يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ ؟ فقال : لا والله يا رسول الله ما شككت فى ابى ولا مصرعه وكنت أعرف من أبى رأياً وحلماً وفضلاً فكنت أرجوا أن يهديه ذلك إلى الإسلام فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذى كنت أرجوا له أحزننى ذلك فدعا له رسول الله بخير قال له خيراً ،  وكان قتلى  المسلمين أربعة عشر رجلاً أو ستة عشر رجلاً أما المشركون فكان القتلى سبعون وأسر سبعون

نبأ الهزيمة للمكيين :

قال أبو رافع مولى رسول الله كنت غلاماً للعباس وكان الإسلام قد دخل أهلنا البيت فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يكتم إسلامه وكان أبو لهب تخلف عن بدر فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه ووجدنا فى أنفسا قوة وعزة وكنت رجلاً ضعيفاً أعمل الأقداح أنحتها فى حجره زمزم فوالله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهرى إلى ظهره فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد أقبل فقال له أبو لهب : هلم إلى فعندك الخبر قال : فجلس إليه والناس قيام عليه فقال يا بن أخى أخبرنى كيف كان أمر الناس ؟ فقال : ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا وآيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما تليق ،  شيئاً ولا يقوم لها شئ قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدى ثم قلت تلك والله الملائكة قال : فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهى ضربة شديدة فثاورته فاحتملنى فضرب بى الأرض ثم برك على يضربنى وكنت رجلاً ضعيفاً فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فعلت فى رأسه شجة منكرة قالت : استضعفته أن غاب عنه سيده فقام مولياً ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته ” وهى قرحة تتشائم بها العرب ” فتركه بنوه وبقى ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه فلما خافوا السبة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد وواروه .

بشائر النصر إلى أهل المدينة :

قال ابن اسحاق ك ثم بعث رسول الله عند الفتح عبد الله بن رواحه بشيراً إلى أهل العالية بما فتح الله عز وجل على رسوله وعلى المسلمين وبعث زيد بن الحارثة إلى أهل السافلة قال أسامة بن زيد : فأتانا الخبر حتى سوينا التراب على رُقية بنت رسول الله التى كانت عند عثمان بن عفان رضى الله عنه كان رسول الله خلفنى عليها مع عثمان أن زيد بن الحارثة قدم قال : فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يققول : قُتل عتبة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأبو البخترى العاص بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج قال قلت يا أبت أحق هذا ؟ قال : نعم والله يا بني.

عودة النبي (ص) إلى المدينة :

أقبل رسول الله قافلاً إلى المدينة ومعه السارى من المشركين وفيهم عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث واحتمل رسول الله معه النفل الذى أُصيب من المشركين وجعل على النفل عبد الله بن كعب عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار فقال راجز من المسلمين ثم أقبل رسول الله حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له : سير إلى سرحة به فقسم هناك النفل الذى أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء ثم ارتحل رسول الله حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون ينئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين فقال لهم سلمة بن سلامة : ما الذى تهنئونه به فوالله إن لقينا الأعجائر صُلعاً كالبدن المعلقة فنحرناهم فتبسم رسول الله ثم قال : ” أى بن أخى أولئك الملأ أى الأشراف والرؤساء ” ،  وكان اليهود والمنافقون قد ارجفوا فى المدينة بإشاعات الدعايات الكاذبة حتى أنهم أشاعوا خبر مقتل النبي (ص) ولما رأى أحد المنافقين زيد بن حارثة راكباً القصواء ناقة رسول الله قال : لقد قُتل محمد وهذه ناقته نعرفها وهذا زيد لا يدرى ما يقول من الرعب وجاء فلان ،  فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون وأخذوا يسمعون الخبر حتى تأكد لديهم فتح المسلمين فعمت البهجة والسرور واهتزت أرجاء المدينة تهليلاً وتكبيراً وتقدم رؤوس المسلمين الذين كانوا بالمدينة إلى طريق بدر ليهنئووا رسول الله بهذا الخبر ، أسرى بدر : وقد الأسارى بعد بلوغه (ص) المدينة بيوم فقسمهم على أصحابه وأوصى بهم خيراً فكان الصحابة يأكلون التمر ويقدمون لأسراهم الخبز عملاً بوصية رسول الله (ص)،  وقد اختلف الصحابة فى أسرى بدر أيقتلون أو يفادون على قولين وقد استشار رسول الله الناس فى الأسارى يوم بدر فقال : إن الله قد أمكنكم منهم قال :فقام عمر فقال يا رسول الله إضرب أعناقهم فأعرض عنه رسول الله ثم عاد النبي (ص) فقال للناس مثل ذلك فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله نرى أن تعفوا عنهم وان نقبل منهم الفداء فذهب عن وجه رسول الله ما كان فيه من الغم فعفا عنهم وقبل منهم الفداء فأنزل الله [ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ] ، وهنا رواية تذكر أن سيدنا أبو بكر لما انتهى من كلامه استشار رسول الله عمر فقال له سيدنا عمر أرى أن تمكننى من فلان قريب عمر فأضرب عنقه وتمكن على من عُقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس فى قلوبنا هوادة للمشركين وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم فهوى رسول الله ما قال أبوبكر ولم يهوى ما قالت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي (ص) وأبو بكر وهما يبكيان فقلت يا رسول الله : أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاءً بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول الله : للذى عرض على صاحبك من أخذ الفداء قد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة ، وأنزل الله [ ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض ] ، وقسم رسول الله الغنائم بالتساوى بين المسلمين الذين شهدوا بدراً وكان فى الأسرى ابو العاص بن الربيع بن عبد العزى ختن رسول الله و زوج ابنته زينب فبعثت السيدة زينب قلادتها لتفديه بها فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فإفعلوا فقالوا نعم يا رسول الله فأطلقوه وردوا عليها الذى لها وأعلن أبو العاص اسلامه بعدما قدمت السيدة زينب المدينة.

 

المراجع

السيرة النبوية د / محسن عبد الله
السيرة النبوية لابن هشام
زاد الميعاد للجوزى
الرحيق المختوم للمباركفورى
تفسير بن كثير
البداية والنهاية
أسباب النزول للواحدى

ايات من سوره الانفال ، وسوره البقره


المزيد في: متنوعات

اترك تعليقاً