في معارك الرسول الحربية

نتكلم أولا عن مشروعية القتال في الإسلام وأسبابه وقواعده العامة.

بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته بالحسنى والموعظة، يتلو على قومه ما يتنزل عليه من كتاب الله ويحدثهم من قلبه وعقله ما يفتح عيونهم على ما هم عليه من وثنية وخرافة وضلالة وجهل، ولكن قومه قابلوه بالصد والسخرية أولا، ثم بالافتراء والأذى ثانيا، ثم بالتآمر على قتله أخيرا، إلى أن هيأ الله لدعوته مكانا تستقر فيه آمنة مطمئنة، ولكن واجه في مكانه الجديد قوتين تتربصان به الدوائر: قريشا التي أقض مضجعها هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى المدينة التي آمن أصحابها بدعوته أيضا، فغدت له قوة تتمزق لها مرائرة قريش، وقوة اليهود التي حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقيم علاقة سلم معها منذ  استقراره، ولكن طبيعة اليهود طبيعة حاقدة ماكرة متآمرة، فما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يستقر بالمدينة، وتتم له زعامة المهاجرين والأنصار، حتى شرق زعماء اليهود بالحسد والغيظ من هذه الزعامة التي نافستهم وسيطرت على المدينة سيطرة تامة.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بالمدينة تتنزل عليه آيات القرآن الكريم بالصبر على ما يقولون. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}[المزمل: 10] وكان المشركون كلما تنزلت آيات الصبر على أذاهم ازدادوا في الأذى والكيد والعدوان، ولم يكن المسلمون يومئذ قادرين على صد الأذى لقلتهم واستضعافهم، فلما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأصبحت للمسلمين شوكة ومنعة، واجهتم قوة قريش وعداوتها، وضغينة اليهود وخبثهم، باحتمال العدوان عليهم في كل حين، والإسلام دين واقعي لا يغمض عينه عن الواقع، ويتبع الأوهام والمثل العليا إزاء قوم لا يؤمنون بهذه المثل، ولا يحترمونها، فكان لا بد له أن يحتمي بالقوة، ويستعد لرد العدوان، ويقضي على قوة الباطل وشوكته، لينفسح المجال أمام  دعوته الخيرة المحررة، تخاطب العقول، وتزكي النفوس، وتصلح الفساد، وتجعل للخير أعلاما يهتدى بها، ومنارات تضيء الطريق لمبتغي الخير والهداية والرشاد.

لهذا كله وما يشبهه شرع الله القتال للمؤمنين في السنة الثانية للهجرة، حين نزلت الآيات التالية:
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ  ،  الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  ،  الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39-41].

هذه هي أولى الآيات التي نزلت في شأن القتال والإذن فيه، وجدير بنا أن نقف عندها قليلا لنتعرف منها حكمة الإذن بالقتال وفائدته وأهدافه:

1- ذكر في صدر الآية أنه أذن للمؤمنين بالقتال، ويلاحظ أنه عبر عن المؤمنين بلفظ: ( الذين يقاتلون ) ومن القواعد اللغوية المعروفة أن تعليق الحكم بمشتق يفيد علية ما منه الاشتقاق، فـ (يقاتلون) مشتق من المقاتلة، أي إن هؤلاء المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال، كانوا يقاتلون أي: يضطهدون ويعذبون، ويعلن عليهم القتال، فهذا صريح في أن العلة في الإذن لهم بالقتال وقوع الاضطهاد عليهم من قبل، فهو بمثابة رد العدوان عنهم، ومعاملة المثل بالمثل، كما في قوله تعالى: {فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقوله: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].

2- وفي الآية تصريح بأن هذا القتال الذي كانوا يقاتلون به إنما كان ظلما وعدوانا لا مسوغ له، وذلك في قوله في الآية: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} فالمؤمنون في مكة لم يكونوا ظالمين ولا متعسفين، إنما كانوا يدافعون عن العقيدة، ويدعون قومهم إلى التحرر من الأوهام والخرافات، ومساوئ الأخلاق.

3- وفي الآية الثانية تصريح بالحقائق التاريخية التي وقع فيها الاضطهاد، ذلك أن هؤلاء المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال كانوا قد أخرجوا من ديارهم، وليس هنالك ظلم أشد من إخراج الإنسان من وطنه، وتشريده عن أرضه.

4- وفي الآية نفسها بيان للسبب الذي من أجله أخرج هؤلاء المؤمنون من ديارهم، وهو أنهم خالفوا قومهم في اعتناق الوثنية، وعبادة الآلهة الباطلة، وعبدوا الله الواحد الأحد، فالقوم كانوا مضطهدين من أجل العقيدة، لا تريد قريش أن تكون لهم حريتهم فيها.

5- وما دام المؤمنون كانوا لا يملكون حرية الاعتقاد، فالقتال الذي شرع إنما هو لتأمين هذه الحرية التي هي أغلى ما يعتز به الإنسان من قيم هذه الحياة.

6- ثم بين الله أن هذا القتال الذي شرعه للمؤمنين ليست فائدته في تأمين الحرية الدينية لهم وحدهم، بل يستفيد منها أتباع الديانات السماوية الأخرى، وهي اليهودية والنصرانية، فإن المسلمين يومئذ كانوا يقاتلون وثنيين لا دين لهم، فإذا قويت شوكتهم استطاعوا أن يحموا أماكن العبادة لليهود والنصارى مع حمايتهم للمساجد، كيلا يستولي الوثنيون والملحدون فيحاربوا الديانات الإلهية، ويغلقوا أماكن العبادة لها، وذلك واضح في قوله في تلك الآية: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} .

والصوامع: هي أماكن الخلوة للرهبان، وتسمى الأديرة. والبيع: هي كنائس النصارى، والصلوات: هي كنائس اليهود. وبذلك يتبين بوضوح أن القتال في الإسلام ليس لمحو الديانات السماوية، وهدم معابدها، بل لحماية هذه الديانات السماوية من استعلاء الملحدين والوثنيين عليها، وتمكنهم من تدميرها وإغلاقها.

7- وفي الآية الثالثة تصريح بالنتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في هذا القتال المشروع، فهي ليست استعمار الشعوب، ولا أكل خيراتها، ولا انتهاب ثرواتها، ولا إذلال كراماتها، وإنما هي نتائج في مصلحة الإنسانية، ولفوائد المجتمعات، فهي:

‌أ-  فهي لنشر السمو الروحي في العالم عن طريق العبادة {أَقَامُوا الصَّلَاةَ}.

‌ب- ولنشر العدالة الاجتماعية بين الشعوب عن طريق الزكاة {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}.

‌ج-  ولتحقيق التعاون على خير المجتمع وكرامته ورقيه {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ }.

‌د-   وللتعاون على مكافحة الشر والجريمة والفساد {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}.

تلك هي النتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في قتالهم مع أعدائهم، من إقامة دولة إسلامية تعمل على سمو الروح، وتكافل المجتمع، ورقي الإنسان عن طريق الخير،  ومنع انحداره عن طريق الشر، فأية غاية إنسانية أنبل من هذه الغاية التي شرع من أجلها القتال في الإسلام، وأي قتال عرفته الأمم في القديم والحديث يساوي هذه الغاية في عموم الفائدة للناس جميعا وبناء المجتمعات على ما يؤدي إلى رقيها وتطورها تطورا إنسانيا بناء، لا رجوع فيه إلى عهد الجاهلية الأولى، من الإباحية، والانحلال، والإلحاد والحروب، وسفك الدماء، كما هو شأن التطور الذي يتم في ظل هذه الحضارة الغربية المادية.

وإذا عرفنا أهدف الإسلام وغاياته من إباحة القتال، عرفنا معنى أنه في سبيل الله ، فالجهاد في سبيل الله هو جهاد لتحقيق الخير والسلام والسمو والعدل في المجتمعات، وسبيل الله طريقه، والطريق إلى الله لا يكون إلا عن طريق الخير والحب والتعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان.

هذه كلمة موجزة عن أهداف الإسلام في مشروعية القتال والأسباب التاريخية للإذن به. ثم نتكلم عن الدروس والعظات في معارك الإسلام الأولى، أي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كنت أود أن اتكلم عن دروس كل معركة على حدة، ولكن الوقت ضيق وذلك يأخذ عشرات الصفحات، مما حملني على أن أجمع هذه العظات كلها في مرة واحدة، مستفيدا من كل معركة أكثر من درس واحد، ولعلي أفصِّل القول في دروس كل معركة على حدة في العام المقبل إن شاء الله، وفسح في الأجل، وتفضل بتخفيض المرض.

1- كانت أولى المعارك بدرا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج لاعتراض قافلة قريش في عودتها من الشام إلى مكة، ولكن القافلة نجت، وكان المشركون قد صمموا على القتال، فكان من أمر المعركة ما ذكرناه. واعتراض قافلة قريش لا يدل على الرغبة في أخذ الأموال وقطع الطريق، كما يدعي الأفاكون من المستشرقين، بل كان من بواعثه الاقتصاص من قريش لأخذ أموالها لقاء ما أخذت من أموال المؤمنين المهاجرين، فقد أجبرتهم أو أكثرهم على ترك دورهم وأراضيهم وأموالهم، ومن علمت بهجرته بعد غيابه عن مكة باعت له دوره واستولت على أمواله، فشريعة المعاملة بالمثل المعترف بها اليوم في القوانين الدولية تبيح مثل هذا العمل، كما هو الشأن بيننا وبين إسرائيل. ومن المهم أن نلاحظ أنه سبقت غزوة بدر سبع محاولات لاعتراض عير قريش، وكان الذين يخرجون فيها من المهاجرين فحسب، ولم يرسل فيها أنصاريا واحدا، ذلك لأن هؤلاء المهاجرين إن اعترضوا قافلة قريش واستولوا عليها، فإنما يفعلون ذلك عن حق مشروع في جميع القوانين الإلهية، والشرائع الوضعية، ونشير إلى هذه المحاولات السبع وهي:

بعث حمزة على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وسرية عبيدة بن الحارث على رأس ثمانية أشهر منها، وسرية سعد بن أبي وقاص على رأس تسعة أشهر منها،  و (غزوة ودان) على رأس اثني عشر شهرا منها، و (غزوة بواط) على رأس  ثلاثة عشر منها، و(غزوة بدر الأولى) في الشهر الثالث عشر أيضا، و(غزوة العشيرة) على رأس ستة عشر من الهجرة. وكل هذه السرايا والغزوات كانت مؤلفة من المهاجرين فحسب، ليس فيهم أنصاري واحد، وهذا يؤكد ماقلناه.

2- إن النصر في المعارك لا يكون بكثرة العدد، ووفرة السلاح، وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش، وقد كان الجيش الإسلامي في هذه المعارك، يمثل العقيدة النقية والإيمان المتقد، والفرح بالاستشهاد، والرغبة في ثواب الله وجنته،  كما يمثل الفرحة من الانعتاق من الضلال، والفرقة والفساد، بينما كان جيش المشركين يمثل فساد العقيدة، وتفسخ الأخلاق، وتفكك الروابط الاجتماعية، والانغماس في الملذات، والعصبية العمياء للتقاليد البالية، والآباء الماضين، والآلهة المزيفة.

انظر إلى ما كان يفعله الجيشان قبل بدء القتال، فقد حرص المشركون قبل بدء معركة بدر على أن يقيموا ثلاثة أيام يشربون فيها الخمور، وتغني لهم القيان، وتضرب لهم الدفوف، وتشعل عندهم النيران لتسمع العرب بما فعلوا فتهابهم، وكانوا يظنون ذلك سبيلا إلى النصر، بينما كان المسلمون قبل بدء المعركة يتجهون إلى الله بقلوبهم، يسألونه النصر، ويرجونه الشهادة، ويشمون روائح الجنة، ويخر الرسول ساجدا مبتهلا يسأل الله أن ينصر عباده المؤمنين، وكانت النتيجة أن انتصر الأتقياء الخاشعون، وانهزم اللاهون العابثون.

والذي يقارن بين أرقام المسلمين المحاربين، وبين أرقام المشركين المحاربين في كل معركة، يجد أن المشركين أكثر من المؤمنين أضعافا مضاعفة، ومع ذلك فقد كان النصر للمسلمين، حتى في معركتي أحد وحنين حيث انتصر فيها المسلمون، ولولا ما وقع من أخطاء المسلمين في هاتين المعركتين ومخالفتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما لقي المسلمون هزيمة قط.

3- إن شدة عزائم الجيش واندفاعه في خوض المعركة، وفرحه بلقاء عدوه مما يزيد القائد إقداما في تنفيذ خطته، وثقته بالنجاح والنصر، كما حدث في معركة بدر.

4- إن على القائد ألا يكره جيشه على القتال، إذا كانوا غير راغبين ومتحمسين حتى يتأكد من رضاهم وتحسسهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من استشارة أصحابه يوم بدر قبل خوض المعركة.

5- إن احتياط الجنود لحياة قائدهم أمر تحتمه الرغبة في نجاح المعركة والدعوة، وعلى القائد ان يقبل ذلك، لأن في حياته حياة الدعوة، وفي فواتها خسارة المعركة.

وقد رأينا في معركة بدر كيف رضي النبي صلى الله عليه وسلم ببناء العريش له، ورأينا في بقية المعارك: (أحد) و (حنين)، كيف كان المؤمنون الصاقون والمؤمنات الصادقات يلتفون جميعا حول رسولهم، ويحمونه من سهام الأعداء، بتعريض أنفسهم لها، ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنكر ذلك مع شجاعته وتأييد الله له، بل أثنى على هؤلاء الملتفين حوله، كما رأينا في ثنائه على نسيبة أم عمارة، ودعائه لها بأن تكون هي وزوجها وأولادها رفقاءه في الجنة.

6- إن الله تبارك وتعالى يحيط عباده المؤمنين الصادقين في معاركهم بجيش من عنده، كما أنزل الملائكة يوم بدر، وأرسل الريح يوم الأحزاب. ومادام هؤلاء المؤمنون يحاربون في سبيله، فكيف يتخلى عنهم وهو الذي قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }   [ الروم:47] وقال: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38 ].

7- إن من طبيعة الداعية الصادق أن يحرص على هداية أعدائه، وأن يفسح لهم المجال لعل الله يلقي في قلوبهم الهداية، ومن هنا نفهم ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فداء الأسرى يوم بدر، فقد كان يرجو أن يهديهم الله وأن تكون لهم ذرية من بعدهم تعبد الله وتدعو إليه، وإذا كان القرآن الكريم قد عاتب الرسول على ذلك، فلأن هناك مصلحة أخرى للإسلام يومئذ، وهو إرهاب اعداء الله والقضاء على رؤوس الفتنة والضلالة، ولو قتل الأسرى يوم بدر لضعفت مقاومة قريش للقضاء على زعمائها ومؤججي نار الفتنة ضد المؤمنين.

ويلوح لي سر آخر في قبول الرسول أمر الفداء، وهو أن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم كان من بين الأسرى، وللعباس مواقف في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إعلان إسلامه، فقد شهد معه بيعة العقبة الثانية سرا، وكان يخبر الرسول عن كل تحركات قريش، مما يؤكد عندي أنه كان مسلما يكتم إسلامه، فكيف يقتله الرسول وهذا شأنه معه؟ ولو استثناه الرسول من بين الأسرى لخالف شرعته في تحريم قتل المسلم إن كان العباس مسلما، و إن كان مشركا فشريعته لا تفرق بين قريب وبعيد في الوقوف موقف الحزم والعداء من كل من يحارب الله ورسوله، ولاغتنمها المشركون والمنافقون فرصة للتشهير به، ولإضعاف الثقة بعدالته وتجرده عن الهوى في كل ما يصدر عنه، وليس ذلك من مصلحة الدعوة في شيء.

8- إن مخالفة أمر القائد الحازم البصير يؤدي إلى خسارة المعركة، كما حصل في وقعة أحد، فلو أن رماة النبل الذين أقامهم الرسول صلى الله عليه وسلم خلف جيشه ثبتوا في مكانهم كما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لما استطاع المشركون أن يلتفوا من حولهم، ويقلبوا هزيمتهم أول المعركة إلى نصر في آخرها، وكذلك يفعل العصيان في ضياع الفرص، ونصر الأعداء، وقد أنذر الله المؤمنين بالعذاب إن خالفوا أمر رسولهم.

9- والطمع المادي في المغانم وغيرها يؤدي إلى الفشل فالهزيمة، كما حصل في معركة أحد حينما ترك الرماة مواقفهم طمعا في إحراز الغنائم، وكما حصل في معركة حنين حين انتصر المسلمون في أولها، فطمع بعضهم في الغنائم، وتركوا تتبع العدو، مما أدى إلى عودة العدو وهجومه على المسلمين، فانهزموا، ولولا ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الصادقين حوله، لما تحولت الهزيمة بعد ذلك إلى نصر مبين، وكذلك الدعوات  يفسدها ويفسد أثرها في النفوس طمع الداعين إليها في مغانم الدنيا، واستكثارهم من مالها وعقارها وأراضيها. إن ذلك يحمل الناس على الشك في صدق الداعية، فيما يدعو إليه، واتهامه بأنه لا يقصد من دعوته وجه الله عزوجل، وإنما يقصد جمع حطام الدنيا باسم الدين والإصلاح، ومثل هذا الاعتقاد في أذهان الناس صد عن دين الله، وإساءة إلى كل من يدعو إلى الإصلاح عن صدق وإخلاص.

10- وفي ثبات نسيبة أم عمارة، ووقوفها وزوجها وأولادها حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انكشف المسلمون يوم أحد. دليل من الأدلة المتعددة على إسهام المرأة المسلمة بقسط كبير من الكفاح في سبيل دعوة الإسلام، وهو دليل على حاجتنا اليوم إلى أن تحمل المرأة المسلمة عبء الدعوة إلى الله من جديد، لتدعو إلى الله في أوساط الفتيات والزوجات والأمهات، ولتنشئ في أطفالها حب الله ورسوله، والاستمساك بالإسلام وتعاليمه، والعمل لخير المجتمع وصلاحه.

وما دام ميدان الدعوة شاغراً من الفتاة المسلمة الداعية، أو غير ممتلئ بالعدد الكافي منهن، فستظل الدعوة مقصرة في خطاها، وستظل حركة الإصلاح عرجاء حتى يسمع نصف الأمة وهن النساء – دعوة الخير ويستيقظ في ضمائرهن وقلوبهن حب الخير والإقدام على الدين، والإسراع إلى الاستمساك بعروته الوثقى.

11- وفي إصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجراح يوم أحد عزاءٌ للدعاة فيما ينالهم في سبيل الله من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم بالسجن والاعتقال، أو قضاءٍ على حياتهم بالاعدام والاغتيال، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: “الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين” [ العنكبوت 2 و 3]

12-  وفيما فعله المشركون يوم أحد من التمثيل بقتلى المسلمين، وبخاصة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، دليل واضح على خلوِّ أعداء الإسلام من كل إنسانية وضمير، فالتمثيل بالقتيل لا يؤلم القتيل نفسه، إذ الشاة المذبوحة لا تتألم من السلخ، ولكنه دليل على الحقد الأسود الذي يملأ نفوسهم، فيتجلى في تلك الأعمال الوحشية التي يتألم منها كل ذي وجدان حي، وضمير إنساني.

كذلك رأينا المشركين يفعلون بقتلى المسلمين يوم أحد، وكذلك رأينا اليهود يفعلون بقتلانا في معارك فلسطين، وكلا الفريقين يصدرون عن ورْدٍ واحد نابعٍ من حنايا نفوسهم التي لا تؤمن بالله واليوم الآخر، ذلك هو الحقد على المستقيمين في هذه الحياة من المؤمنين إيماناً صحيحاً صادقاً بالله ورسله واليوم الآخر.

13- وفي قبول الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة الحباب بن المنذر بالتحول من منزله الذي اختاره للمعركة يوم بدر، وكذلك في قبول استشارته يوم خيبر، ما يحطم غرور الديكتاتوريين المتسلطين على الشعوب بغير إرادة منها ولا رضى، هؤلاء الذين يزعمون لأنفسهم من الفضل في عقولهم وبعد النظر في تفكيرهم ما يحملهم على احتقار إرادة الشعب، والتعالي عن استشارة عقلائه وحكمائه ومفكرِّيه، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علم الله منه أكمل الصفات ما أهَّلَه لحمل أعباء آخر رسالاته وأكملها يقبل رأي أصحابه الخبيرين في الشؤون العسكرية، وفي طبيعة الأراضي التي تتطلبها طبيعة المعركة دون أن يقول لهم: إني رسول الله، وحسبي أن آمر بكذا، وأنهى عن كذا، إذ قبل منهم مشورتهم، وآراءهم فيما لم ينزل عليه وحي، فكيف بالمتسلِّطين الذين رأينا كثيراً منهم لا يتفوَّق عل الناس بعقل ولا علم ولا تجربة، بل بتسلُّطه على وسائل الحكم بعد أن تواتيه الظروف في ذلك؟ كيف بهؤلاء الذين هم أدنى ثقافة وعلماً وتجربة من كثير ممن يحكمونهم، ألا يجب عليهم أن يستشيروا ذوي الآراء، ويقبلوا بنصيحة الناصحين وحكمة المجربين.

إن حوادث التاريخ القريب والبعيد دلَّتنا على أن غرور الديكتاتوريين قضى عليهم وعلى أمتهم، وهوى بالأمة إلى منحدر سحيق يصعب الصعود منه إلا بعد عشرات السنين أو مئاتها، ففيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من قبول مشورة الحباب في بدر وخيبر قدوة لكل حاكم مخلص، ولكل قائد حكيم، ولكل داعية صادق.

وإن من أبرز شعارات الحكم في الإسلام هو الشورى “وأمرهم شُورى بينه” [الشورى: 38] وأبرز صفات الحاكم المسلم الخالد في التاريخ هو الذي يستشير ولا يستبد، ويتداول الرأي مع ذوي الاختصاص في كل موضوع يهمه أرمه “وشاورهم في الأمر” [آل عمران: 159]. “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” [النحل: 43 والأنبياء: 7].

14-  وفي تقدمه الصفوف في كل معركة وخوضه غمارها معهم إلا فيما يشير به أصحابه، دليل على أن مكان القيادة لا يحتله إلا الشجاع المتثبت، وأن الجبناء خائري القوى لا يصلحون لرئاسة الشعوب، ولا لقيادة الجيوش، ولا لزعامة حركات الاصلاح ودعوات الخير، فشجاعة القائد والداعية بفعله وعمله يفيد في جنوده وأنصاره في إثارة حماسهم واندفاعهم ما لا يفيده ألف خطاب حماسي يلقونه على الجماهير. ومن عادة الجنود والأنصار أن يستمدوا قوتهم من قوة قائدهم ورائدهم، فإذا جبن في مواقف اللقاء، وضعف في مواطن الشدة، أضر بالقضية التي يحمل لواءها ضرراً بالغاً.

15-  على الجنود وأنصار الدعوة ألاَّ يخالفوا القائد الحازم البصير في أمر يعزم عليه، فمثل هذا القائد وهو يحمل المسؤولية الكبرى، جدير بالثقة بعد أن يبادلوه الرأي، ويطلعوه على ما يرون، فإن عزم بعد ذلك على أمر، كان عليهم أن يطيعوه، كما حصل بالرسول يوم صلح الحديبة، فقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم شروط الصلح، وتبين أنها كانت في مصلحة الدعوة، وأن الصلح كان نصراً سياسياً له، وأن عدد المؤمنين بعد هذا الصلح ازداد في سنتين أضعاف من أسلم قبله، هذا مع أن الصحابة شق عليهم بعض هذه الشروط، حتى خرج بعضهم عن حدود الأدب اللائق به مع رسوله وقائده وقد حصل مثل ذلك بأبي بكر يوم بدأت حوادث الرِّدَّة، فقد كان رأي الصحابة جميعاً ألا يخرجوا لقتال المرتدين، وكان رأي أبي بكر الخروج، ولما عزم أمره على ذلك أطاعوه، فنشطوا للقتال، وتبين أن الذي عزم عليه أبو بكر من قتال المرتدين هو الذي ثبَّت الاسلام في جزيرة العرب، ومكَّن المؤمنين أن ينساحوا في أقطار الأرض فاتحين هادين مرشدين.

16-  ومما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم من نُعيم بن مسعود، أن يخذِّل بين الأحزاب ما استطاع في “غزوة الأحزاب” دليل على أن الخديعة في حرب الأعداء مشروعة إذا كانت تؤدي إلى النصر، وأن كل طريق يؤدي الى النصر وإلى الإقلال من سفك الدماء مقبول في نظر الاسلام، ما عدا الغدر والخيانة، وهذا من حكمته السياسية والعسكرية صلى الله عليه وسلم، وهو لا ينافي مبادئ الأخلاق الاسلامية، فإن المصلحة في الاقلال من عدد ضحايا الحروب مصلحة إنسانية.

والمصلحة في انهزام الشر والكفر والفتنة مصلحة إنسانية وأخلاقية، فاللجوء الى الخدعة في المعارك يلتقي مع الأخلاق الانسانية التي ترى في الحروب شراً كبيراً، فإذا اقتضت الضرورة قيامها، كان من الواجب إنهاؤها عن أي طريق كان، لأن الضرورة تقدر بقدرها، والله لم يشرع القتال إلا لحماية دين أو أمة أو أرض، فالخدعة مع الأعداء بما يؤدي إلى هزيمتهم، تعجيل بانتصار الحق الذي يحاربه أولئك المبطلون. ولذلك أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في “غزوة الأحزاب” قوله لعروة ابن مسعود: “الحرب خدعة” وهذا مبدأ مسلم به في جميع الشرائع والقوانين.

17- وفي قبوله صلى الله عليه وسلم إشارة سلمان بحفر الخندق، وهو أمر لم تكن تعرفه العرب من قبل، دليل على أن الاسلام لا يضيق ذرعاً بالاستفادة مما عند الأمم الأخرى من تجارب تفيد الأمة وتنفع المجتمع فلا شك أن حفر الخندق أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الأحزاب عن المدينة، وقبول رسول الله هذه المشورة، دليل على مرونته صلى الله عليه وسلم، واستعداده لقبول ما يكون عند الأمم الأخرى من أمور حسنة، وقد فعل الرسول مثل ذلك أكثر من مرة، فلما أراد إنفاد كتبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء قيل له: إن من عادة الملوك ألاَّ يقبلوا كتاباً إلا إذا كان مختوماً باسم مرسله، فأمر على الفور بنقش خاتم له كتب عليه: محمد رسول الله، وصار يختم به كتبه، ولما جاءته الوفود من أنحاء العرب بعد فتح مكة تعلن إسلامها، قيل له: يا رسول الله إن من عادة الملوك والرؤساء أن يستقبلوا الوفود بثياب جميلة فخمة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى له حلة، قيل: إن ثمنها بلغ أربعمائة درهم، وقيل: أربعمائة بعير، وغدا يستقبل بها الوفود، وهذا هو صنيع الرسول الذي أرسل بآخر الأديان وأبقاها إلى أبد الدهر، فان مما تحتمه مصلحة أتباعه في كل زمان وفي كل بيئة أن يأخذوا بأحسن ما عند الأمم الأخرى، مما يفيدهم، ولا يتعارض مع أحكام شريعتهم وقواعدها العامة، والامتناع عن ذلك جمود لا تقبله طبيعة الاسلام الذي يقول في دستوره الخالد: “فبشر عبادِ، الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه”  [الزمر: 17 و 18] ولا طبيعة رسوله الذي رأينا أمثلة عما أخذ من الأمم الأخرى، وهو القائل: “الحكمة ضالة المؤمن يتلمسها أنَّى وجدها” ويوم غفل المسلمون في العصور الأخيرة، وخاصة بعد عصر النهضة الاوروبية عن هذا المبدأ العظيم في الاسلام، وقاوموا كل إصلاح مأخوذ عن غيرهم مما هم في أشد الحاجة اليه، أصيبوا بالانهيار، وتأخروا من حيث تقدم غيرهم “ولله عاقبة الأمور”  [الحج: 41].

18-  ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش الاسلامي في “غزوة مؤتة” تلمس طابع الرحمة الانسانية في قتال الاسلام، فهو لا يقتل من لا يقاتل، ولا يخرب ما يجده في طريقه إلا لضرورة ماسة، وقد التزم أصحابه من بعده والمسلمون في مختلف العصور بعد ذلك هذه الوصايا، فكانت حروبهم أرحم حروب عرفها التاريخ، وكانوا هم محاربون أدمث أخلاقاً، وأشد رحمة من غيرهم وهم مسالمون، والتاريخ قد سجل للمسلمين صفحات بيضاء في هذا الشأن، كما سجل لغيرهم صفحات سوداء، ولا يزال يسجلها حتى اليوم، ومن منا لا يعرف الوحشية التي فتح بها الصليبيون بيت المقدس، والانسانية الرحيمة التي عامل بها صلاح الدين الفرنجة حين استردها، ومن من لا يذكر وحشية الأمراء والجنود الصليبيين حين استولوا على بعض العواصم الاسلامية، كطرابلس، والمعرة وغيرهما، مع رحمة الأمراء والجنود المسلمين حين استردوا تلك البلاد من أيدي محتليها الغاصبين، ونحن اليوم نعيش في عصر النفاق الأوروبي في ادِّعاء الحضارة والرحمة الانسانية وحب الخير للشعوب، وهم يخربون البلاد، ويسفكون دماء العُزَّل من الشيوخ والنساء والأطفال، ولقد عشنا – بكل أسف – عصر قيام إسرائيل على أرض فلسطين السليبة، وعلمت الدنيا فظائع اليهود الهمجية الوحشية في دير ياسين، وقبية، وحيفا، ويافا، وعكا، وصفد، وغيرها من المدن والقرى، ومع ذلك فهم يَدَّعون الانسانية، ويعملون عكسها، ونحن نعمل للانسانية، ولا نتشدق بها، ذلك أنّا شعب نحمل في نفوسنا حقاً أجمل المبادئ الأخلاقية في السلم والحرب، وننفذها براحة ضمير واطمئنان، بينما هم مجردون من هذه المبادئ في داخل نفوسهم، فلا يجدون إلا المناداة بها نفاقاً وتخديراً، نحن شعب نؤمن بالله القوي الرحيم، فلا تكون قوتنا إلا رحمة، وهم شعب يرون من النفاق أن ينكروا علينا وصف الله بالقوة والبطش، زاعمين أنهم ينعتونه بالحب والرحمة، فما كان لعلاقتهم مع الشعوب وحروبهم مع المسلمين ومع أعدائهم من أبناء ملتهم أثر لهذا الحب ولهذه الرحمة، نحن شعب ما كانت حروبنا إلا لخير الانسانية، فكنا أبرَّ الناس بها، وهم قوم ما كانت حروبهم إلا للغزو والسلب والتسلط والاستعمار، فكانوا أعدى الناس لها.

ومع ذلك فنحن اليوم في حروبنا معهم إنما ندافع عن أرض وحق وكرامة، فلن يجدينا التغنِّي بمبادئنا مع قوم لا يفهمون مبادئ الرحمة والشرف والانسانية، بل يجب علينا أن نستمر في كفاحنا لهم، متمسكين في معاركنا معهم بمبادئ رسولنا وشريعتنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو أحكم الحاكمين.

19-  إن الجيش إذا كان غير متساوٍ في الحماس والايمان والإخلاص، بل كان فيه المتخاذلون والمرتزقة والمتهاونون، لا يمكنه أن يضمن النصر على أعدائه، كما حصل في “غزوة حنين”، وكذلك شأن الدعوات لا يمكنها أن تعتمد على كثرة المصفقين لها، بل على عدد المؤمنين بها المضحين في سبيلها.

20-  ودرس آخر نستفيده من سيرة الرسول في حروبه ومعاركه، هو موقفه من اليهود، وموقف اليهود منه ومن دعوته، فلقد حرص الرسول أول مقامه في المدينة أن يقيم بينه وبينهم علائق سلم، وأن يؤمِّنهم على دينهم وأموالهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، ولكنهم قوم غدر، فما لبثوا غير قليل حتى تآمروا على قتله، مما كان سبباً في “غزوة بني النضير” ثم نقضوا عهده في أشد المواقف حرجاً “يوم الأحزاب” مما كان سبباً في “غزوة بني قريظة”، ثم تجمَّعوا من كل جانب يهيِّئون السلاح ويبيِّتون الدسائس، ويتجمَّعون ليقضوا في غدر وخسَّة على المدينة والمؤمنين فيها، مما كان سبباً في “غزوة خيبر”.

هؤلاء قوم لا تنفع معهم الحسنى، ولا يصدق لهم وعد، ولا يستقيم لهم عهد وكلما وجدوا غرة اهتبلوها، فهل كان على النبي من حرج فيما فعله بهم؟ وهل كان عليه أن يتحمل دسائسهم وخياناتهم ونقضهم للعهود فيعيشوا وأصحابه دائماً في جو من القلق والحذر وانتظار الفتنة والمؤامرات؟ لقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم بحزمه معهم حدود دولته الجديدة، وانتشار دعوته في الجزيرة العربية كلها، ثم من بعد ذلك إلى أرجاء العالم ولا يلوم النبيَّ على حزمه معهم إلا يهوديٌّ أو متعصب أو استعماري وها هي سيرة اليهود في التاريخ بعد ذلك، ألم تكن كلُّها مؤامراتٍ ودسائسَ وإفساداً وخيانةً؟ ثم ها هي سيرتهم في عصرنا الحديث هل هي غير ذلك؟ ولقد كان فينا قبل حرب فلسطين وقيام اسرائيل فيها من يخدع بمعسول كلامهم فيدعوا إلى التعاون معهم، وكان فينا من يساق إلى دعوة التعاون معهم من قبل أصدقائهم من الدول الكبرى، وكانت نتيجة ذلك التخاذل وفسولة الرأي في معالجة قضية فلسطين، أما بعد ذلك فلا يوجد من يغترُّ بهم، وليس لنا سبيل إلى التخلص من شرهم إلا حزم كحزم الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملتهم لنطمئن على بلادنا ولنتفرغ لدورنا الجديد المقبل في حمل رسالة الاسلام والسلام إلى شعوب الأرض قاطبة.

تلك أمانة نؤديها بصدق وإيمان إلى الجيل الجديد عساه يستطيع أن يفعل ما لم يستطع فعله جيلنا المتخاذل.

21- وفي غزوة مؤتة كان أول لقاء بين المسلمين والروم، ولولا أن العرب الغساسنة قتلوا رسولَ رسولِ الله إلى أمير بصرى، لكان من الممكن أن لا يقع الصدام، ولكن قتل رسوله إلى أمير بصرى يعتبر عملاً عدائياً في جميع الشرائع، ويدل على عدم حسن الجوار، وعلى تثبيت الشر من هؤلاء عمال الروم وصنائعهم، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسال جيش مؤتة ليكون فيه إنذار لهم ولسادتهم الروم بقوة الدولة الجديدة واستعدادها للدفاع عن نفسها حتى لا يفكروا بالعدوان عليها، ولما وصل المسلمون إلى مؤتة وجدوا جموعاً من الروم ومن العرب المتنصرِّة الخاضعة لحكمهم قدَّرها المؤرخون بمائتي ألف، وكان أخو هرقل قد قاد الجيش وعسكر في “مآب” قرب عمّان اليوم، مما يؤكد ما توقعه الرسول منهم في تصميمهم على مناجزة الدولة الجديدة والقضاء عليها توجُّساً من قيام دولة عربية مستقلة داخل الجزيرة العربية تكون نذيراً بانتهاء استعمارهم لبلادهم واستعبادهم لعربها القاطنين على حدودها مما يلي الحجاز، وهكذا بدأت المعارك بين المسلمين والروم.

22-  وفي غروة تبوك أو العسرة آيات بينات على ما يفعله الإيمان الصادق في نفوس المؤمنين من إثارة عزائمهم للقتال واندفاع أيديهم في بذل المال ومن استعذابهم الحر والعناء والتعب الشديد في سبيل الله ومرضاته، ولذلك لما تخلَّف ثلاثة من المؤمنين الصادقين في إيمانهم عن هذه الغزوة من غير عذر، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم، فامتنع أزواجهم وآباؤهم عن مكالمتهم فضلاً عن جمهور المسلمين، مما اضطر بعضهم إلى ربط نفسه بعمد المسجد، وآخر إلى احتباس نفسه في البيت، حتى تاب الله عليهم بعد أن أخذ المسلمون درساً بليغاً فيمن يتخلف عن أداء الواجب لغير عذر، إلا أن يؤثر الراحة على التعب، والظل الظليل على حر الشمس وشدتها.

23- أما فتح مكة، ففيها من الدروس والعظات ما تضيق عن شرحه هذه الصفحات القلائل، ففيها نجد طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم الداعية الذي لا يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيلاً، فقد منّ عليهم بعد كفاح استمر بينه وبينهم إحدى وعشرين سنة لم يتركوا فيها طريقاً للقضاء عليه وعلى أتباعه وعلى دعوته إلا سلكوها، فلما تم له النصر عليهم، وفتح عاصمة وثنيتهم، لم يزد على أن استغفر لهم، وأطلق لهم حريتهم، وما يفعل مثل هذا ولا فعله في التاريخ، ولكنما يفعله رسول كريم لم يرد بدعوته ملكاً ولا سيطرة، وإنما أراد له الله أن يكون هادياً وفاتحاً للقلوب والعقول، ولهذا دخل مكة خاشعاً شاكراً لله، لا يزهو كما يفعل عظماء الفاتحين.

24-  وفيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة حكمة أخرى، فقد علم الله أن العرب سيكونون حملة رسالته إلى العالم، فأبقى على حياة أهل مكة وهم زعماء العرب ليدخلوا في دين الله، ولينطلقوا بعد ذلك إلى حمل رسالة الهدى والنور إلى الشعوب، يبذلون من أرواحهم وراحتهم ونفوسهم ما أنقذ تلك الشعوب من عمايتها، وأخرجها من الظلمات الى النور.

25-   وآخر ما نذكره من دروسها ودروس معاركه الحربية صلى الله عليه وسلم، هي العبرة البالغة بما انتهت اليه دعوة الله من نصر في أمد لا يتصوره العقل، وهذا من أكبر الأدلة على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن الاسلام دعوة الله التي تكفل بنصرها ونصر دعاتها والمؤمنين بها والحاملين للوائها، وما كان الله أن يتخلى عن دعوته وهي حق ورحمة ونور، والله هو الحق وهو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، والله نور السماوات والأرض، فمن يستطيع أن يطفئ نور الله!. وكيف يرضى للباطل أن ينتصر النصر الأخير على الحق، وللهمجية والقسوة والفساد أن تكون لها الغلبة النهائية على الرحمة والصلاح.

ولقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين جراح في معركتي أحد وحنين، ولا بد في الدعوة من ابتلاءٍ وجراح وضحايا “ولينصرنَّ الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز” [الحج: 40].

 

المصدر : السيرة النبوية دروس وعبر للكاتب مصطفى السباعي


المزيد في: متنوعات

اترك تعليقاً