بيت المقدس وتحويل القبلة

يقول تعالى [ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ]

قيل : المراد بالسفهاء مشركوا العرب وقيل : أحبار اليهود وقيل : المنافقون وهذه الآية عامة فى هؤلاء.

كان تحويل القبلة بعد الهجرة وذلك فى العام الثانى من الهجرة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلى بين الركنين وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر تعذر عليه الجمع بينهم فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس ” تفسير بن كثير 1 / 189 ” وبيت المقدس له مسميات عديدة منها ” مدينة المقدس ” وهذه المدينة عرفت منذ الفتح الإسلامى باسم بيت المقدس ومعنى هذا الإسم أنها مدينة مقدسة طاهرة خالصة لله تعالى لا يأتيها إلا المؤمنون ولا يقصدها إلا العابدون وأن ينأى عنها الظالمون المدنسون لحماها ولترابها الطهور ومسجدها المقدس بخصائص فى طليعتها أن الله سبحانه خصها بالعديد من الأنبياء منذ عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى عهد سيدنا عيسي عليه السلام وتحريرها من دنس الإستعمار الصهيونى واجب على كل المسلمين فى بقاع الأرض ” افتتاحية منبر الإسلام عدد 8 ص 1 / 2002 ” وحينما أمر الله رسوله بالتوجه إلى بيت المقدس فرحت اليهود لذلك واكثروا اللغط بسبب اتجاهه إلى بيت المقدس وكان رسول الله يقلب وجهه فى السماء فى السماء مبتغياً الأمر بالتوجه إلى الكعبة ” مقال د / أحمد عمر هاشم منبر الإسلام عدد 8 سنة  2002 ” فنزل قوله تعالى : [ قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ] ” البقرة ”

وكان رسول الله قد استقبل بيت المقدس نحو ستة عشر شهراً ؛ قال البخارى : أخبرنا أبو نعيم سمع زهير عن أبى اسحاق  عن البراء رضى الله عنه أن رسول الله صلى إلى بيت المقدس ( ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهر ) وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وانه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبلل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله قوله : [ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ]   ” البقرة ”

وكان رسول الله يحب قبلة إبراهيم فكان يدعوا الله وينظر إلى السماء فأنزل الله قوله : [ فولوا وجوهكم شطره ] فارتاب اليهود من ذلك وقالوا : ماولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها فأنزل الله قوله : [ قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ] وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك فى مسجد ابن سلمة فسمى مسجد القبلتين وفى حديث نويلة بنت مسلم أنه جاءهم الخبر بذلك وهم فى صلاة الظهر قالت : فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ؛ فلما وقع ذلك الحديث ارتاب المرتابون من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود وزيعت قلوبهم عن الهدى وتخبطوا فى أقوالهم وشكوا فقالوا : [ ما ولاهم عن قباتهم التى كانوا عليها ] فأنزل الله عز وجل الأمر لنبيه قائلاً قل : يا محمد لهؤلاء الكفار وهؤلاء المرتابين وهؤلاء المنافقين وهؤلاء المتخبطين مشركى مكة ومن المنافقين الذين أظهروا الإسلام ويبطنون الكفر ومن اليهود قل لهم : [ لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صرط مستقيم ] ” بن كثير 1 / 195 ” ولو نظرنا إلى حادث تحويل القبلة من الكعبة أولاص إلى بيت المقدس ثم من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة لتبين لنا دلالات منها :

1-كان الإتجاه من قبل إلى الكعبة ثم أمره بعد الهجرة بالتوجه إلى بيت المقدس لعل اليهود يتبعونه ويوفون بعهودهم وهى صورة من صور التسامح مع أهل الكتاب وكم فى المعاملات الإسلامية من نماذج تؤكد هذا المعنى حتى يعيش الناس فى أمان ويحيا الجميع فى سلام وتعطى الصورة الحقيقية السمحة عن هذا الدين العظيم وعن الدور القيادى لهذه المة وما ينبغى أن تكون عليه من تسامح ” فضل ليلة النصف من شعبان د / أحمد عمر هاشم عدد 8 سنة 2002 ” فى كل شيئ حتى فى الدين فالأمة الإسلامية مأمورة أن تدعوا لدين الله وأن لا تكون هذه الدعوة بحمل السلاح أو غيره فهى ليست أمة اكراهية كغيرها من الأمم وليست أمة عنصرية هى أمة تفى بجميع عهودها ومواثيقها فهى ليست أمة حبر على ورق ولا أمة  كلام يتشدق به بل هى تقول فتلتزم بما تقول هى أمة مطيعة لآوامر ربها فكان جلى لهذه الأمة أن تنفذ أمر الله عز وجل فتتجه إلى بيت الله الحرام ولا تجادل فى هذا الإتجاه بل هى أمة استسلمت لأمر الله عز وجل فلم ينطق أحد عن سبب الإتجاه ولكن السؤال عن صلاتهم التى صلوها فى اتجاه بيت المقدس فكان جواب الله لهؤلاء القوم ( وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) هكذا تجلت رحمة الله عز وجل بهذه الأمة فكانتة صلاتهم تجاه بيت المقدس مقبولة منهم.

2- وفى الإتجاه إلى بيت المقدس معنى االتآخى والتسامح والترابط و إشارة إلى أهمية المسجد الأقصى ومنزلته مما تستوجب على الأمة التضامن لنصرته وخلاصه ونسأل الله أن يفك أسره من أيدى الآثمين الظالمين وفى تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة دعوة إلى توحيد الأمة فالقبلة رابطة توحد للمسلمين إذ لو ترك كل انسان يتجه حسبما يريد لكان الناس متفرقين أما اتجاههم إلى قبلة واحدة فى مشارق الأرض ومغاربها ففى هذا معنى الوحدة والقوة والترابط كما أن فى الإتجاه إلى بيت المقدس ثم التحويل عنه إلى الكعبة ما يشير إلى التقديس فى الإسلام ليس للمكان ولكنه لله وحده —— د / أحمد عمر هاشم  منبر الإسلام

لذلك نجد أن المسلمين اهتموا ببيت المقدس فمن مظاهر عناية المسلمين القديمة الموصولة بالقدس وبالمسجد الأقصى وبفلسطين كلها أنهم خلال عصور التاريخ المتوالية لم يدعوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بهذا المكان إلا تحدثوا عنها أحاديث التفصيل والتحليل والتمجيد والتخليد وأودعوا هذه الأحاديث مؤلفات وكتب ضخمة ألفها علماء الإسلام ومؤرخوه منذ قرون منها كتاب فضائل القدس للجوزى واستمر تأليف الكتب عن فضائل المسجد الأقصى ومكانة القدس عند المسلمين حتى العصر الحالى وبذلك كان المسجد الأقصى أحد مسجدين اثنين اقتصر القرآن على التصريح باسمها وأولوها المسجد الحرام وفيه الكعبة المشرفة وهذه العناية موجودة —- خطبة د / أحمد شرباصى منبر الإسلام 2002 — منذ قال سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه : ” لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى فى المدينة والمسجد الأقصى ” — البخارى –

ولقد القى الإسلام رداء الهيبة والكرامة وبالقداسة على المسجد الأقصى فجاء عن الرسول باستثناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى وجاء فى الفقه الإسلامى ” من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى غفر له ما تقدم من ذنبه ” – بن ماجة – ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) يقول تعالى : إنما حولناكم إلى قبلة ابراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترف لكم بالفضل — تفسير بن كثير /1 – نعم الأمم كلها تعترف بأن للأمة المحمدية فضل عظيم على الناس فى الدنيا والآخرة أما فى الدنيا فكانت الأمة المحمدية لها فضل عظيم فى إرسال حقوق الإنسان وهى أمة أعطت للإنسان آدمية وبينت أنه مفضل على سائر المخلوقات وكان لها فضل عظيم إذ أنها أقبلت على هذا الكون فأخذت تكشف بعضاً من اسرار الكون التى استفاد منه الغربيون وأعادوا تصديرها على أنها من اكتشافهم يقول الشيخ محمد الغزالى :” إن المبادئ التى طالما صدرنها للناس يعاد تصديرها إلينا على أنها كشف إنسانى ما عرفناه يوماً ولا عشنا بها دهراً ولا غرور لقد كان ظهور هذه المبادئ شيئاً جديداً فى حياة الغرب والكعكة فى يد اليتيم عجبة ” – حقوق الإنسان واعلان الأمم المتحدة –

والوسط هنا الخيار والأجود كما يقال لقريش أوسط العرب نسباً وداراً أى خيرها وكان رسول الله وسطاً فى قومه أى اشرفهم نسباً ومنه الصلاة الوسط التى هى أفضل الصلوات وهى صلاة العصر والكعبة المشرفة التى هى قبلة المسلمين هى  فى البقعة المباركة والمكان الوسط فهى فى وسط الكوكب الأرضى تتوسط دنيا الناس شرقاً وغرباً وهكذا اختار الله تعالى مكان رسالته موقع قبلة الصلاة ومهبط الوحى هذا المكان الوسط الذى يتسق مع وسطية الدعوة السمحة ويتناسب مع الرسالة العامة الخالدة لترسل اشعة النور والهداية إلى من حولها فى جميع بقاع الأرض وهكذا اقتضت حكمة الله أن يكون المكان وسطاً فى جغرافية الأرض لتتمكن الدعوة أن تنشر فى ربوع الأرض وتؤدى الأمة الإسلامية أمانة التبليغ التى حملها الله تعالى وفى مكان وسط من العالم كل هذا يؤكد وجوب تبليغ الأمانة التى كلف الله تعالى هذه الأمة بها وشرفها بإنزال الوحى على أرضها وإرسال رسول منهم و قيام القبلة – الكعبة المشرفة – فى هذا المكان الطاهر والحرم الآمن فى قلب هذا العالم وهكذا تنكشف حقيقة تنزل الوحى الإلهى فى البلد الحرام والقبلة المشرفة داخل المسجد الحرام فمكة المكرمة هى مركز الكرة الأرضية ووسط العالم بأسره وأن قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ) يحدد لهذه الأمة دورها فى النهوض بالبشرية ورسالتها فى قيادة القافلة الإنسانية فبذلك تتبوأ مكانتها كخير أمة أخرجت للناس شاء الله لها أن تكون أمينة على رسالة السماء وشاهدة على الناس وحين تتخلى عن هذه الرسالة أو تخل بواجبها تكون قد حرمت نفسها من خيرتها ومن كونها الأمة الوسط وفقدت كيانها ودورها الريادى بين الأمم ويستوجب القرآن على هذه الأمة عبادة الله والجهاد فى سبيله لأنه اختارهم واصطفاهم على سائر الأمم وكلفهم بشريعة لا حرج فيها ولا مشقة ولا ضيق و لا عسر فيها والناظر إلى قبلة المسلمين وهى الكعبة المشرفة يرى أنها قبلة واحدة لكل المسلمين فى أنحاء العالم ففى أى مكان على الخريطة الدنيوية وجد الإنسان فعليه أن يتجه إلى الكعبة زادها الله تشريفاً وتكريماً وتعظيما ومهابة وبرا وواضح أنه يصعب على من فى عواصم الدنيا وفى أنحاء الأرض أن يقع اتجاههم إلى الكعبة بعينها فلذا كانت الكعبة قبلة من فى مكة ومكة قبلة فى سائر الأرض — د / أحمد عمر فى فضل ليلة القدر منبر الإسلام 2002

ويتجلى توحيد القبلة الأثر الواضح فى وحدة المسلمين فكلهم مهما تباعدت أقطارهم ودولهم واختلفت أجناسهم وألوانهم يتوجهون إلى قبلة واحدة فتتوحد عواطفهم ومشاعرهم ويستشعرون الإنتماء الروحى والدينى والعاطفى فى اتجاههم إلى أقدس بقعة واشرف مكان اختاره رب العزة سبحانه وأمر باقامته والطواف حوله والإتجاه إليه فى كل صلاة ولذا كان للكعبة أثرها فى قوة المسلمين النابعة من اجتماعهم وتوحيد صفوفهم وكان للقبلة أثرها فى جمع شمل الأمة والتقائها فى هذه البقعة التى تهوى إليها الأفئدة ويأتى إليها الناس من كل فج عميق حجاجاً وعماراً يتلاقون على  أنبل مقصد وأشرف غاية فى أقدس بقعة وأطهر مكان ؛ ولما كان للقبلة أثرها فى وحدة الأمة الإسلامية نظر الأعداء إليها وإلى القرآن الكريم وإلى الأزهر الشريف على أن هذه المعالم الثلاث تمثل وحدة المسلمين وقوتهم ونظروا إليها بتأمل حاقد ليحاولوا أن يصدوا الناس عن الأزهر حتى تتفرق الأمة وتضعف وقد قال قائلهم قديماً فقال : لا قرار لهم ما دام المصحف والكعبة والأزهر ولذا وجب علينا أن نحافظ على تراثنا وأمجادنا ومقدساتنا ودستورنا السماوى — مقال د / محمد عبد الحليم تحويل القبلة وأثره مجلة الآزهر 2002

” لتكونوا شهداء على الناس ” عن أبى سعيد قال قال رسول الله ( يدعى نوح يوم القيامة فيقول له هل بلغت ؟ فيقول نعم فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح من يشهد لك ؟ فيقول محمد وأمته قال قذلك قوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله : يجئ النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم ؟ فيقال : من يشهد لك ؟ فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون نعم فيقال : وما أعلمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبر أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) – بن كثير 1 / 190

هكذا حقق  الله لرسوله أمنية كان يتمناها ويقلب وجهه فى السماء لعل الله أن يحققها له وهى أن يجعل قبلته إلى البيت الحرام قبلة أبيه إبراهيم فأعطاه الله وأرضاه وحول له القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ( قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فو وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره )البقرة 144 من يومها صار متبوعا لا تابعاً وتحددت ملامح أمته الخاصة بأن صارت لها قبلتها التى ميزتها عن غيرها من الأمم حتى أن اليهود والنصارى يطلق عليهم أهل الكتاب ويطلق على المسلمين أهل القبلة — افتتاحية مجلة المجاهد عقيد / مصطفى عبد الحليم ص  1

المصادر

  • القرآن الكريم
  • تفسير القرآن العظيم لابن كثير
  • مقال د / أحمد عمر هاشم
  • خطبة جمعة د / أحمد الشرباصى
  • افتتاحية منبر الإسلام عدد 8
  • وأشرقت شمس الإسلام على مصر د / فرج الوصيف
  • مقال د / محمد عبد الحليم
  • افتتاحية مجلة المجاهد  عقيد / مصطفى عبد الحليم

المزيد في: متنوعات

اترك تعليقاً